أسعد قطان في المأزق الوجودي الإنساني

الجسرة الثقافية الالكترونية
*سارة ضاهر
المصدر: الحياة
في مجموعته القصصيّة «عندما ضجر التنين» (الدار العربية للعلوم- ناشرون) يقدم أسعد قطان نصوصاً أدبية تجمع بين النص- الفكرة، والقصّة القصيرة ويبرز فيها، إلى جانب النفس اللاهوتي، وهو مجال تخصّص الكاتب، تصوير الحالات الإنسانية، بشيء من الوعي، الذي يولد من خيال الكاتب، وإن كانت غالبية هذه النصوص موحية وغامضة وغير مألوفة لأحاسيس القارئ وميوله. نشعر بلعبة خفية ودائمة مع الحدود الدينية والاجتماعية، مع الحياة والموت، مع الشخصيات التي تبدو عادية- غرائبيّة، فتعزز هذا الشعور بأن لا شيء نهائياً، بل هناك حالة دائمة من عدم الاستقرار.
تتبلور أفكار مشروع قطان القصصي في اختيار موضوعات كالبحث في خفايا النفس الإنسانية وخباياها، ومحاولة تعرية طبقاتها المستورة خلف أغوار المأزق الوجودي الإنساني، الحديث منه والقديم، والتائه في واقعه المعيش. ويتجلى ذلك في اختيار المفردات والشخصيات، على السواء، من عالم التاريخ وما فيه من بطولات وقديسين، ومزجه بالواقع الغريب الناطق: التاج، الثوب، السلطان، التنين، الموتى، النار، الفارس، العفاريت، الخيال… لتدور الأحداث في فضاءات سردية تتحرك فيها هذه الشخصيات في ظل أزمات وجودية، نفسيّة وعقليّة.
وبرغم تفرد كل قصّة من قصص المجموعة بكيانها وحياتها الخاصة، إلا أنها تنطلق، جميعاً، من قناعة راسخة، تؤكدها المشاهد المتنوعة، بأنّ التاريخ والغرائبي لا ينفصلان عن الواقع المعيش. فالواقع الذي نراه ونعيشه بوعينا ما هو إلا لغة اللاوعي على ألسنتنا، والوسيلة الوحيدة، ربما، للتعبير عن أنفسنا. فعندما يقوم المرء بتفكيك العالم المأزوم داخله، يتمكن من إعادة بناء الواقع بمعناه الأوسع. فالوقوف على الحافة بين المستقبل والتاريخ، الواقع والخيال، الحقيقة والوهم، العقل والجنون… ربما كان هو الأسلوب، الذي كما يرى الكاتب، يساعدنا على فهم العالم الذي نعيش فيه. وبذلك تقف الشخصيّات المحورية، في معظم قصص المجموعة الثلاث عشرة، على تلك الحافة بين الحقيقة والوهم، فتنال منها متاهة الوجود. أسلوبان في الكتابة، يقتسمان صفحات القصص: أولاً، الومضة والتكثيف اللذان نقرأهما في نصوص تحت عناوين: «الكتاب»، «أطوار الحياة الأربعة»، «الكاتدرائية»، «بالنتارينز». فلا حاجة، هنا لذكر تفاصيل المكان، أو حتى تحديده وشريكه الزمان. وقد اتخذ الكاتب من هذا الأسلوب المعروف والمحبّب في آن، شكلاً رمزياً يغلف السرد، الذي يدور على لسان الراوي فقط. وفي موضوع واحد ومحدّد لا يتعدّى الصفحة الواحدة أو الاثنتين. ثانياً، في محطات أخرى، ينشر الكاتب، قصصاً قصيرة، لكنها طويلة نسبة إلى النصوص السابقة، مكتوبة باهتمام ومشغولة بالتفاصيل. ويدور السرد لتتماهى القصص مع الأخرى التي يكتب عنها قطان. ويبرز من خلالها الشعور بالخوف والمطاردة والضياع في المتاهة. وهذه كلها طبقات متوارية خلف المظهر الراقي للواقع الذي نحياه وهي تدعو الإنسان إلى تمتين علاقته بالحياة.
في قصته التي استحوذت على صورة الغلاف وعنوان المجموعة «عندما ضجر التنين»، يتخذ الكاتب من محكيات صراع القديس جاورجيوس مع التنين، إطاراً عاماً للسرد، ويرفعها إلى الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير وكذلك إلى الفنان اللبناني عاصي الرحباني. تروي القصة حكاية فارس روماني يُدعى جاورجيوس، من مدينة اللدّ في فلسطين، يسعى إلى قتل التنين الذي جثم عند بوابة بيروت. فرغت المدينة من عذاراها، تعطّلت التجارة، وتكلّست الحياة… لكنّ الفارس طلب إعفاءه من مهمته العسكريّة، وصاحب التنين الذي عاد لا يقتات إلا بالأسماك وبعض حيوان البحر: «ثم صرخ التنين بصوت عظيم: «لقد دُقّت ساعة الموت يا جاورجيوس، نفدت الشمس في روحي، ولم يبقَ منها إلا جذوة يتأهّب الضجر لطمرها، هيا اغرز رمحك في جوفي، وانتضِ سيفك المسنون، واجدع عنقي، فأنا لن أقاوم. لقد بلغني أنك قويّ جداً، وقوتك تزيّن لك أنك منتصر، ولكنك مهزوم، كلّنا مهزومون برسم الموت، الضجر يهزمنا جميعاً». ولكن ما الذي دفع التنين كي يضجر؟ هل هو الوهم؟ أم مظهر من مظاهر الحياة الآخرة؟ هو السؤال الذي، حتى النهاية، لم يجد له الجندي الروماني، ولا القارئ، جواباً في تلك الفانتازيا القصيرة.
يحرص الكاتب على استخدام بنية السرد الدائري هذه في عدد من قصصه، حيث يتنوّع السرد وتتداخل المشاهد، مثلما يحدث في حلم كابوسي، يغيب عنه منطق العقل، في بنية دائرية يعود معها الحدث إلى بدايته، إلى اللافعل. وهذا ما يؤكد حضور أزمة الإنسان، بقوة، منذ الأزل، مع الوجود، إلى جانب إحساسه باستحالة الوصول إلى الحقيقة المجرّدة، ولا جدوى من السعي وعبثيته.
تحكي قصّة «بدء الربيع» عن أحوال الناس الذين يستطيعون أن يعيشوا بلا شيء، ولا حتى سلطان، في إشارة، ربما، إلى العالم العربي الآن. وفي «سعدى» نتعرّف إلى تلك العمّة الحنون والمحبّة وما تجسّده من طيبة أهل القرية وتقيّدهم بمعتقداتهم. وفي «موت الخال» تبرز «ديما» التي تعاملت مع الموت بأسلوب مختلف وخاص…
في مجموعته القصصية «عندما ضجر التنين»، يطرح أسعد قطان واقع الإنسان المعاصر الغارق في متاهة واقع مأزوم، يحكم قبضته حول روحه وعقله. ولكن من دون جواب. فالجواب لا يزال بعيد المنال، على رغم توهّجه من خلال تحليلات القارئ الخاصة. وقد تكون هذه التحليلات هي الحقيقية، وإن كان يكتنفها شيء من التعالي يهيمن على القصص. ففي الواقع، تموت حكاية وتولَد أخرى، والمسحوق هو الإنسان!