الإنسان اليومي كما يراه عبدالواحد كفيح

الجسرة الثقافية الالكترونية
عبد الدائم السلامي
إنّ النظر في المُنجَز الكتابي المغربي الراهن يشي بكون القصة فيه تشهد حركيةً إبداعيةً كبرى، صورتُها كثرةُ الإصدارات والملتقيات النقدية والبحوث الأكاديمية ذات الصلة، وهو ما نزعم معه القولَ إنّ المغربَ هو أرضُ القصّة وفضاؤُها بامتياز. ولعلّ ما زاد من بلاغة الكتابة القصصية المغربية هو وعي كُتّابها بضرورة ردّ الاعتبار الى هذا الجنس الأدبي عبر تحرير تَوْقِه إلى الحضور الفاعل في المشهد النثري العربي، وتمكينه من جُرأة تجريب أشكالٍ له جديدة، وتثمين نزوعِه إلى الانفتاح على فنون عصره والاستفادة من السرديات العربية والغربية بقديمها وحديثها، على حَدِّ ما يتجلّى في قصص أحمد بوزفور وأنيس الرافعي، أو لدى كُتّاب القصة القصيرة جداً أمثال مصطفى لغتيري ومحمد الشايب وإسماعيل البويحياوي وغيرهم كثر. وفي هذا الإطار، يمكن أن نذكر مجموعة «رسائل الرمال» القصصية للكاتب عبدالواحد كفيح (جمعية آسفي للبحث في التراث)، وهو يتضمن سبعَ عشرة قصةً قصيرة.
لا تتعنَّى قصصُ عبدالواحد كفيح تجريبَ الأفكار الهُلامية الكبرى ذات البذخ الدلالي المتعالي عن أفق انتظار جماعة الناس وعن مفردات محيطهم الاجتماعي، وإنما هي تُخاطب الشخصَ الإنسانيَّ فينا بكلّ حسناته وسوءاته، بل وتُعاتِبُه على استكانته لشروط وضعــــِه المادي الذي ظلّ يرزح فيه تحت إكراهات جمّةِ المخاوف والآلام. فهل من خوف وأمل أكبر من خوف وأمل أطفال يكتبـــون رسائـــل يحملها والدُهم الأُمّي الذاهبُ إلى حرب دائرة رحاها على تخوم الصـــحراء، ليرسلها لهم في ما بعد بوتيــــرة رسالة في كلّ شهر إعلاماً منه لهم بكونه لا يزال حيّاً، ومتــى وصلتهم رسالةٌ منه يفتحونها ويتحلّقون حولها قارئين بلذاذة ما فيهــــا من أخبار عن والدهم – وهم الذين كانـــوا قد كتبوها بأنفسهم – فتطــــمئنّ نفوسُهم بها ويهدأ فيهم خوفُهم من موته في الحرب كما جاء في قصة «رسائل الرمال»؟ وهل يمكن أن نتصوّر حجم لا مبالاة مؤسّسات الدولة بأرواح رعاياها الذين لا ترى فيهم سوى جُثثٍ حيّةٍ قابلة للاستخدام العمومي، وذلك عندما يكتشف المـــواطن «عمّي الطاهر» الذي أمضى ثلاثيــــن سنة في جرّ الجثث إلى ثلاجة المـــوتى بأحد المستشفيات الحكومية، أن هناك جُثةً لا يزال فيها بعض حياة، بل هـــي تَطلب إليـه تمكينَها من جرعةِ ماء دافـــئة، فيغلق عليها – من شدّة خوفه – باب الثلاجة ويهبّ مذعوراً لإعلام مدير المستشفى، فإذا بالمدير ينعته بالمجنون ويطرده من العمل على رغم تنبُّهه في ما بعد الى وجود كدمات على جبهة ذاك الميّت داخل الثلاجة، وفق ما نقرأ في قصة «مَن قتل الجثّة في ثلاجة الموتى» التي تنتهي بسؤال يُوجّهه عمّي الطاهر الى الميّت، متمنّياً عليه لو كان قد طرق باب الثلاجة بيده بدل أن يضربه برأسه ضـــرباً سبّب له الموت: «لِمَ لم تَدقَّ جدران الثلاجة يا جباااان»؟ وهو سؤال لئن أعاد صدى سؤال «لماذا لم تطرقوا جدران الخزّان؟» الذي وجّهه أبو الخيزران، سائق الصهريج، في رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، فقد أعاده ليمزجَ فيه السذاجة بالحكمة ضمن سخرية سوداء تُعلن فيها القصة عن تعفّن أخلاق الواقع، وتنامي برودة إنسانية كائناته.
إذا استثنينا قصص «اعتَصَم بالمطر اتقاءَ البلل» و «حطام سلطانة البحر» و «لهذا كفرتُ بدين الدّيك» التي فَتَرَت فيها هِمّةُ السرد وخمدت فيها حرارةُ المعنى، جاز لنا القول إنّ بقية قصص عبدالواحد كفيح لا تجري وراء استعارات كبرى باتت ممجوجةً من القارئ، وإنّما تُجيدُ الإنصاتَ لصخب فضائها العُموميّ وتلتقط هشيمَ تكسُّراته وتُعيد بناء ما ترى فيه وتسمع بناءاتٍ متخيَّلةً تنهض على دعامتيْ السخرية والنقد. ويرقى فيها اليومي إلى مراقٍ ثَرَّةِ الترميز حتى لَيُخيَّل إلينا أنّ كلّ قصة من «رسائل الرمال» تقول ما ترغب هي في قوله لا ما يرغب فيه كاتبُها. وإذْ تفعل ذلك، نُلفيها تتكئ على تقنية التناص مع سرديات كبرى شهيرة، حيث تتصادى فيها أصوات شخصيات بينيلوب ودون كيشوت وملكادياس وإيما بوفاري وغيرهم. وهي إذ تُحضِر تلك الشخصيات تمنحُها أدواراً في أحداثها جديدةً تتخلّى فيها كلّ شخصية عن طبيعتها الأولى التي ظهرت بها في أثَرها الأدبيِّ الأصلي لتتحلّى بإهاب جديد هو من تصنيع الكاتب ومن وحي ثقافته الأدبية.
ولعلّ بهذا الغَرْفِ من وقائعِ اليوميِّ، وبهذا الاتكاء على خزين ثقافة الكاتب السردية، استطاعت قصص «رسائل الرمال» أن تَهيج بدَلالات طريّةٍ وقابلةٍ للتشكّل وِفْقَ هيئات تتناسب وأُفُق انتظار القارئ، على غرار قصص «أصدقائي الخالدون» و «امسحوا العقارب» و «شغب طفولي» و «ليالي النكد» و «عَلِّقِ القصّةَ وغَلِّقِ البابَ» التي بلغ في كتابتها عبدالواحد كفيح مبلغَ الجودة الفنية. ذلك أنّ الخوف والرّيبة والضّعف والمحبّة والوحدة والفقر والموت ومجّانية الألم الذي نلفيه مبثوثاً في أجساد تلك القصص، كلّها أحوالٌ تَعْتَوِرُ شخصيات السّرد وتُحرّك وجداناتِها لتبوح للقارئ بسرائرها وهواجسها الطريّة بعيداً من كلّ حضور تظاهريّ مَدْهون بثقافة الحياء والتستُّرِ، وتصير عنده نَسيخاتٍ نموذجيّةً للمجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها. وهو أمر نراه قد حقّق في كتاب «رسائل الرمال» مظهراً من مظاهر وظائفية الكتابة الإبداعية في اتصالها بالواقع.
المصدر: الحياة