العائلة المضطربة بطلة «الطريق الأخضر»

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مودي بيطار
تتناول الكاتبة الإرلندية آن إنرايت العائلة مجدداً في روايتها السادسة الممتعة «الطريق الأخضر» الصادرة عن دار جوناثان كيب، وتؤكد ثانية أن الأدب الإرلندي من أفضل ما تنتجه الجزر البريطانية. تبدأ روايتها في عيد الشعانين 1980 بإعلان دان، الابن الأكبر في أسرة ماديغان، نيّته الانضمام إلى سلك الكهنوت. يقول إن الكاهن نصحه بطلب السماح من أهله على الحياة الأخرى التي أراداها له، والأحفاد الذين سيحرمهما إياهم. تصدر الأم أنّة صغيرة بدا أنها أفرحتها وفاجأتها في آن، فتكررها. في المرة الثانية تبدأ الأنّة ناعمة ثم تطول قبل أن تقول روزالين: «يا إلهي». ترفع الشوكة إلى فمها وتوقعها، وينفتح فمها في ما سمّاه دان «شكل الضفدعة الواسعة الفم» قبل أن تبدأ العويل وتأكل في الوقت نفسه. تغضب وتلزم غرفتها، ويسخر الأخ الأصغر إيميت من «المزحة اللعينة» قائلاً لشقيقه إنه ليس مؤمناً بل يعتقد أنه كذلك، فيرد: «ما الفارق؟» وهو يبتسم ابتسامته الكهنوتية. كانت هانا في الثانية عشرة، وجعلها عزل شقيقها أكثر حباً له. تخاف ألا يعود إلى بلاده، وتلوم البابا الذي زار إرلندا وأقام قداساً في غالواي حيث يدرس دان. يذهب الأب إلى المزرعة كالعادة، ولا يبدي رأياً، ويبدو البيت، من دون الأم، واسعاً، صامتاً، غريباً ومنفصلاً. يصحب دان هانا إلى غالواي، ويقدّمها إلى صديقته إيزابل التي تفتنها برفعتها. حين تخبر والدتها عنها تنهض من فراشها فوراً لتسرّح شعرها وترتدي ملابسها.
يتكرر ذكر المناسبات الدينية في الصفحات الأولى، ثم تغيب لتحضر مرة واحدة حين تقصد الأم روزالين وحدها قداس الميلاد في إشارة إلى تغير إرلندا بين 1980 و2005 .لا تتبع إنرايت السرد التقليدي، وتنتقل بين الأصوات والأماكن ثم تجمع النسيج في لقاء الميلاد. في 1991 تضع إنرايت دان في الوسط النيويوركي المثلي، في تحطيم للمقدسات وفضح العلاقة بين الكهنوت والمثلية. يتلو أشعار ييتس وويتمان بصوت مثل العسل البري، ووجه رآه ماسيمو مثل وجه كاردينال ربما في لوحة رآها في قصر بيتي، فلورنسا. يمزج الحياء والعنجهية، ويبدو أول وصوله إلى نيويورك مثل غضب الله برأسه الجميل وعظم وجنتيه المتكبرتين. بعد دراسته الأدب الإنكليزي يقصد المدينة مع إيزابل، ويعمل في حانة ومحل للأحذية. كان يساعد مليونيراً ستينياً على انتعال حذاء حين مارس مثليته للمرة الأولى. يصادق بيلي، لكنه يبقى نائياً، يقبل العلاقة ولا يبادر. يقول يوماً إنه سيهجره ليتزوج: «أحبها وأحب هيئتها وشكلها، وأحب جسدها وأعتقد أن الزواج منها (قرار) صحيح». يكره بيلي المثليين المتزوجين، أو كاتمي ميولهم الذين يبكون بعد النوم معه، ويرغب بعلاقة بسيطة، مكشوفة وغير معقدة. لكن دان يواصل لقاءه، ولا يتزوج، وإن ظلّ يسلك كأنه لا يعترف بالعلاقة وكأنها ليست حقيقية له. يفكر بيلي أنه أحبّ رجلاً يتخلص من ذاته القديمة قبل أن يجد أخرى جديدة. أحب كاذباً ومؤمناً، وإن صعبت عليه معرفة ما آمن به بالتحديد. كانت إيزابل كذبة، لكن دان أحبها حقاً، وحزن حين عشقت بعده رجلاً مثلياً «كالجحيم». حين يصاب بيلي بالإيدز، يمتنع دان عن زيارته رغم علمه أنه سيموت.
كونستانس التي بقيت غائبة عن أزمة الأسرة في أول الثمانينات تطلّ في 1997 وهي في طريقها إلى المستشفى لتفحص ورماً في الصدر. أكبر الأولاد، في السابعة والثلاثين، أم لثلاثة أولاد وابنة لأرملة، ولا وقت لديها للسرطان. ازداد وزنها، ولبست البلوز الوحيدة التي لا تزال صالحة، وغطّت الفجوات بين الأزرار بوشاح. فاجأها جسدها مراراً، وأمتعها انفتاح الحوض لدى خروج الطفل الذي ماثل ذروة التثاؤب. كان جسدها ماهراً، وشفى نفسه من جروح الإنجاب، لكنه ربما كان غبياً أيضاً. تزوجت دزموند ماكغراث، المقاول الميسور، لأنه الوحيد الذي طلبها للزواج. واعدت قبله شاباً ماليزياً اختفى فجأة، وفقدت عذريتها مع رجل متزوج. بعد ولادة الأطفال الثلاثة، نقل الزوج الجنس إلى الصباح، ونام معها قبل رحلتها إلى المستشفى من دون أن يذكر شيئاً عن الفحص. عاشت بيسر معه، لكنها تناولت دواء مضاداً للكآبة مذ مرض والدها بالسرطان ووفاته بعد عام. تذكرها رائحة المستشفى الحلوة برائحة الجسد فور الإنجاب، وتبكي حين تعرف أن المرأة التي بادرت إلى الحديث معها مصابة بالسرطان. رأت خطوطاً في ذراعي المرأة المفرطة البدانة وعرفت أنها ندوب من جروح أحدثتها بنفسها. كانت مارغريت تفكر في الثياب التي اشترتها لعرس ابنتها وضرورة فقدانها بعض الوزن قبله، وتسمعها كونستانس الآن تقول للطبيب أنها متبناة. تفكر أنها تملك كل شيء، في حين يقل ما تستطيع مارغريت القول إنه لها.
في 2002 يعمل إيميت موظف إغاثة في مالي، ويعيش مع أليس الإنكليزية وكلبها ميتش الذي تبعها من السوق فأوته. كان عمل في السودان، وشعر في مطار جنيف، وهو عائد إلى بلاده، برغبة في النوم على الأرض النظيفة المعطّرة. لازم والده المحتضر خلال مرضه، وأصيب بانهيار عصبي. يجذبه وأليس العذاب، ويحتملان الحياة البدائية وسط انقطاع الكهرباء المتكرر. التقاها بعد انفصالها عن صديقها السويدي وإفراطها في الشرب، وحين أوصلها إلى منزلها قبّلته فوراً ورفعت قدمها كفتاة في كوميديا رومنسية. كانت موهوبة في السرير، وأحس أنه محظوظ بلقائها، لكنه لم يعتبر شعوره حباً. تتناول الطعام الذي يعدّه إبراهيم بيديها كالسكان المحليين، وتبكي حين يحبطها عملها المعني بخفض وفيات الأطفال. يسخر أولاد إبراهيم منها لاهتمامها بالكلب، وتدرك أن ما يأكله من اللحم في الوجبة الواحدة يفوق ما يحصلون عليه في أسبوع. تتشاجر مع إيميت حين يموت ميتش مسمّماً، وإذ يقول إنه يحبها تجيب إنه يتأخر دائماً وتهجره. يصادق امرأة هولندية بعدها، لكنه يفكر بأليس حين يخطر له الاستقرار إثر عودته إلى إرلندا.
بكت هانا بسهولة، وعاشت وسط الفوضى، ففكرت كونستانس التي شاركتها الغرفة أن جهتها بدت دائماً كأنها موقع تظاهرة وسخاً. تعود في 2005، في السابعة والثلاثين، وهي ممددة على الأرض، ملتصقة بدمها المتجمد، وعاجزة عن النهوض. أدمنت على الكحول، ووقعت وجرحت نفسها بالزجاجة المكسورة، وفكرت بطفلها من شريكها هيو. في المستشفى تشكو من الممرضة التي لا تسألها عن اكتئاب ما بعد الولادة، بل عن الشرب وحده. يشمئز هيو من شربها، وإهمالها ملابسها الداخلية على الدرج، لكنه، تفكر، لا يمانع في النوم معها عليه. كثرت ممارستهما الجنس أول علاقتهما، وإن لم تكن نوعيته رفيعة، لكنه يعطي الأولوية الآن للطفل. بعد إنجابها بسبعة أشهر تمكنت من ارتداء الجينز الضيّق ثانية، وغازلت الرجال كالمجنونة في افتتاح عرض مسرحي، لكنهم تجاهلوها. يؤثّر إدمانها على عملها ممثلة، فتنسى الحوار وتصاب برهبة المسرح. تمدح والدتها جمالها، وتخفي قلقها من انتفاخ وجهها. تقول إنها ولدت لتلعب دور فايولا في «الليلة الثانية عشرة» لشكسبير، فتغضب هانا التي تفضّل أدواراً معاصرة.
يعيش دان في 2005 في تورونتو مع صديقه المحامي الثري الذي ينفق عليه، ويطلب منه الارتباط رسمياً. يكتشف، وهو يشرف على الأربعين، الحب في إحساسه، ويشتمّ في رائحة لودو رائحة البيت. يخشى الوحدة، ويقرر الزواج وإبلاغ عائلته التي يدرك أفرادها ميوله باستثناء والدته التي لا تزال في مرحلة الشك غير الملحّ. تنتظره كونستانس في مطار شانون وهي تتذكر الوهج الذي تمتع به منذ طفولته حتى لقائهما الأخير قبل خمسة أعوام. حين يظهر يبدو أكبر سناً مما يجب وأصغر من عمره، وتفكر أن مثليّته لا تخفى على أحد.
لم يكن الحب ما دفع روزالين كونسيدين الميسورة إلى الزواج من باتريك ماديغان الوسيم، الفقير الطويل القامة، بل الغريزة الحيوانية. رفضت طالبي يدها الكثر، وشاركت باتريك الفراش أياماً في منزل أهلها بعد موت والدها بثلاثة أسابيع. عاشت في البيت نفسه بعد زواجها منه، وبدا أن غرفة النوم ملعونة، إذ أجهضت مراراً قبل أن ترزق أولادها الأربعة. لم تتغير وهي في السادسة والسبعين، ولا تزال تستغلّ أولادها وتتهمهم بأنهم ناكرو الجميل. تفضّل دان، ويراها إيميت غبية ولا تطاق. تتحوّج كونستانس لغداء الميلاد، وتعدّه، وتستقبلهم روزالين في قميص أبيض وسروال أسود وعقد لؤلؤ، ثم تتذمر من الوشاح الثمين الذي أهدتها كونستانس إياه لأنها لا تحب أن تبدو ثيابها أهم منها. تخبر أولادها أنها ستبيع البيت لأنهم لم يجمعوا مالاً، وتقرر العيش مع كونستانس فتصيبها وزوجها بالرعب. تختفي بعد الغداء وتُشغل أهل البلدة بالبحث عنها في نهاية تخصّصها إنرايت لقتل الأم.
تطغى لغة الكاتبة الطرية حتى في هجائها شخصياتها، ويندر تبيّن شغلها على اللغة الذي يتضّح مثلاً في الصفحة 190: «أحبّت هانا الطفل. أحبته، أحبته، أحبته. رعته، رعته، رعته»، وفي الصفحتين 216 و217 حين يفكر إيميت أن هناك شيئاً خطأ في سعادة والدته، كأن ماراً غريباً أشعل ضوءاً فيها وتركه ينير غرفة خالية. تستكشف ببراعة الحياة الداخلية وأهمية الجنس، لكن إرلندا تبقى المكان الوحيد المتوهج بالمعرفة المفصّلة والانتماء، أي الحياة.
المصدر: الحياة