العتوم تقدم بابنوس للكاتبة خريس بجزالة واتقان

 

 

الجسرة الثقافية الالكترونية –وكالات – د.مها العتوم – تقدم رواية سميحة خريس الجديدة «بابَنوس» تراجيديا الحلم الإنساني بالبحث عن الحرية والعدالة، وهو الحلم الذي لا يرتبط بمكان واحد، كما لا يحده زمان واحد، في الوقت الذي تجري فيه أحداث الرواية في مكان مسمى، ويحده اللغة واللون والقضية، ويشير إلى زمن بعينه.
إن المكان والزمان في هذه الرواية ليسا مجرد عنصرين من عناصر البناء الروائي، إنهما شخصيتان من شخصيات الرواية، بالإضافة لتشكيلهما الإطار الأولي أو الظاهري للرواية، ثم ما يلبث الزمان والمكان أن يتبادلا الأدوار مع بعض شخصيات الرواية. حيث لا يعود المكان أو الزمان مرتبطاً بحدود الجغرافيا أو الوقت، وتغدو الشخصيات هي التمثيل الفني لمكان الرواية وزمانها الرمزيين.
إن هذه الرواية لا تقدم بطلاً تقليدياً واحداً، على الرغم من ظهور «بابنوس» في أول الرواية واستمرارها إلى نهايتها، كما تظهر في عنوان الرواية، ولكنها ليست البطلة إلا بمقدار ما هي رمز وأيقونة فنية يمكن أن تُقرأ في ضوئها مقولة الرواية وخطابها. إنه السواد الشكلي للبطلة الذي يناظر السواد المضموني للعالم، والبياض الداخلي الذي يداهمه السواد الخارجي في العالم. وهي بابنوس السودان الذي يفيض ماء وصفاء حين تقول الحكّامة: «في قلب كل واحد منا نيل» (ص72)، وحين تقول بابنوس ذاتها: «يترقرق ماء نيلنا في فؤادي، ويمسح العالم بلل شفيق» (ص73). وهي هي المرأة المخدرة في آخر الرواية التي يُعرض جسدها: «كأنها كنز أفريقي، عارية تماماً، بعينين ذاهلتين جراء إبرة التخدير، سوداء مغوية، بُطّن قفصها الزجاجي من خلفها بغلالات ساتان حريري عاجي اللون، تجلت ضوءاً أسود فجّ من البياض» (ص275).
ثنائية الأسود والأبيض لها البطولة في هذه الرواية، وهي ليست عن الفوارق العنصرية التي يلخصها اختلاف اللون، وإنما عن الفوارق الإنسانية التي لا تقف عند حد اختلاف اللون، وهو ما تُظهره شخصية «سابرينا» («عاج»، البوسنية البيضاء) التي تعاني من الظلم نفسه والامتهان نفسه الذي تقع «بابنوس» تحت وطأته على الرغم من تمايز الألوان، فإذا أضفنا إلى هاتين الشخصيتين الرمزيتين شخصيتَي الحكّامة و»أوسني» الفرنسية، يكتمل المربع الأنثوي الذي يمثل ظل السلطة من جهة، وسلطة الظل من جهة أخرى.
فالحكّامة تصف نفسها في أول فصل من فصول الرواية بقولها: «لا التباس في كوني امرأة، ولست في عداد الإناث، فأنا حكّامة، والحكّامة عادة مخلوق مغاير، فوق البشري، أعلى من المرأة قليلاً، تصطف قريباً من موقع الذكورة ولكنها تتجاوزه» (ص10). إنها الأنثى/ الحكمة التي تقف في وجه الرجل/ السلطة من دون أن تطمع في احتلال دوره، لذلك تركت للشفيع/ الذكر/ السلطة لقبَ «عمدة الخربقة» الذي تقول عنه: «أما الشفيع فهو مجرد فتى لعبت به النقود والشهادات وأثواب القماش وهواء المراوح الكهربائية في المدن، وتخنثت كلماته بين لهجتنا ولهجة الصحراء العربية وبعض كلمات إنجليزية يرددها مثل ببغاء، وعاثت الشهوات الصغيرة خراباً في رأسه، فأوهمته بمكانة عالية، فإذا سيق وراء وهمه، لم يتبعه أهالي الخربقة» (ص19)، وبالتالي فإن الصراع بين شخصيتَي الحكّامة والشفيع ليس على السلطة في الخربقة، إنه مصارعة السلطة للعدالة والحرية بشكل عام ورفضها لأشكال وجود الحرية والعدالة ومن يمثلهما. لذلك فإن الحكّامة لا تعبأ بالشفيع ولا بمنصبه ولا بسلطاته، وتمارس دورها الذي خُلقت له ومن أجله.
أما «أوسني» التي تحتل بطولة نهاية الرواية، فهي تناظر الحكّامة من أوجه عدة: فهي امرأة مثلها مثل الحكّامة دون التباس.
فوق البشري: بلا مساحيق ملونة مما يتكاثف في أوجه النساء العابرات (ص257).
أعلى من المرأة قليلاً: فقد انتقلت من خانة العاملات إلى صف صاحبات الأعمال.
تصطف قريباً من موقع الذكورة: حيث أثبتت «أوسني» أنها امرأة صلبة لم تستسلم لانهيار الأعمال الذي اجتاح باريس.
تتجاوز الذكر/ السلطة في ذم قانون الأمن الداخلي الذي فرضه «ساركوزي»، وتسمّيه «قانون النفاق الاجتماعي»… «فالنسوة اللواتي مُنعن من التسكع على أرصفة الشوارع والتقاط الزبائن تفرَّقن في الغابات القريبة، حيث الخطر كبير، والحماية مستحيلة، كما تدنت أجورهن وغابت الرقابة الصحية فتحولن إلى مصدر للأمراض الخطيرة» (ص256).
إن المناظرة بين المرأتين واضحة رغم أن الشبه بعيد، يصل إلى حد التناقض بين لون الحكّامة/ الأسود، و»أوسني»/ البيضاء، ولكنهما تخوضان الحرب نفسها ضد السلطة الذكورية، ويمارسن ما سمّته الحكّامة: «الموازنة بين الحكمة والعدالة والهوى» (ص40)، وهو ما لا تفكر فيه السلطة التي يمثلها الذكر.
لذلك تنتهي الرواية نهاية ساخرة بعرض الجسدَين: الأسود (بابنوس) والأبيض (سابرينا)، في «فاترينة» واحدة لتمثلا معاً وجهين مختلفين في اللون والعرق والدين، ومتشابهين في كونهما ضحية للظلم والفساد الذي تمثله السلطة بأشكالها المختلفة.
وفي مقابل هذه النماذج الأنثوية، تعرض الرواية نماذج ذكورية تتباين في اللون والعرق والدين والدين وتتشابه في الطمع والظلم والفساد. وهي لا تمارس سلطتها على الأنثى أو ضد الأنثى تحديداً، وإنما تمارسها على العالم وضد أنوثة الكون عموماً، ابتداء من «الشفيع» عمدة الخربقة، و»شديد» حارس السجن، وصولاً إلى «الكسندر» و»ساركوزي» مروراً بـ»قوس الحياة» (الجمعية الفرنسية)، وهذا «قوس الحياة» الذي يحمل رمز التحول، ويمثل منعطف حياة الخربقة الآمنة وقتل أبنائها واختطاف أطفالها للاتجار بهم.
لذلك يغدو المكان والزمان مفتوحين على المكان والزمان الإنسانيين ابتداء من الخربقة/ المكان الافتراضي الهامشي، وصولاً إلى باريس/ المكان الحقيقي المركزي.
بل إن اختيار الخربقة/ المكان الافتراضي، مقصود لذاته، تعبيراً عن المكان البكر/ الطبيعة: «آخر العالم، حيث لا يرغب أحد في الوصول إلى الخربقة، ولا نرغب نحن بوصول أحد إلينا» (ص16)، وحيث لا صراع من أجل المال: «فقرنا خصم يعاندنا ويشغل أيامنا، ويغنينا عن خصام بعضنا بعضاً» (ص16)، وحيث الحرية والعدالة. تقول الحكّامة: «إنها خربقة التنعم بالاستقلال، أن تكون عارياً يعني أن القماش لا يشتريك، إننا قوم الصبر على الجوع وهدهدة المحبة والوفاق، خربقتنا هي اعتكاف الحمائم في أوكار بعيدة عن الصقور الكاسرة، إنها ما تبقّى من أرواح المساليت فينا، وليذهب الشفيع وطموحه العريض إلى الجحيم» (ص33). وكأن هذه اللحظة هي لحظة بداية العالم، وإنسانها هو الإنسان البدئي قبل الظلم والطمع.
إن الخربقة تبدو خارج العالم لأنها خارج نظامه، ولأنها تسير برعاية الحكّامة/ الأنثى، لا السلطة/ الذكر، لكن هذا المكان يتعرض للتشويه حين يُزَج به في أتون معركة هو ليس طرفاً فيها، فيفقد براءته، ويُراق دم رجاله ونسائه، ويتبادل المكانُ الدورَ مع الشخصيات، لأن «بابنوس» تمثل السودان وتحمل قضيته، وعرْض جسدها في آخر الرواية ما هو إلا التمثيل بقضية وأزمة دارفور على المذبح الإنساني، و»عاج» هي القضية البوسنية على المذبح نفسه.
وهذا ما يجعل اختيار الرواة المتعددين لتقديم حكاية الرواية اختياراً مثالياً وذكياً من قبل الروائية سميحة خريس، فعندما «تتشظى الأبنية المجتمعية ويفقد الإنسان وحدته مع ذاته، لا بد من الاستناد إلى جماليات التفكك بدلاً من جماليات الوحدة والتناغم» كما يقول الناقد شكري ماضي.
وتبدو وجهات النظر المختلفة التي تقدمها كل شخصية على حدة هي الحرية التي يطمح الإنسان عموماً إلى تحقيقها في ما يمارَس عليه العسف والظلم باغتصاب هذه الحرية التي تفضي إلى العدالة لو لم تُغتصب، والتي تجعل قضية الإنسان مرهونة إلى الهوى والأهواء السياسية والاقتصادية التي تحول الإنسان من فطرته البدئية البسيطة إلى وحشية المدنية والسلطة ورأس المال.
تنتمي «بابنوس» إلى ما يسمى «الرواية الجديدة» أو «الفصاحة الجديدة» كما سماها الناقد عبدالله إبراهيم، وذلك ليس بالنظر إلى الموضوع الجديد والمكان الجديد الذي تقدم الروائية من خلاله هذا العمل، وإنما بالنظر إلى الأدوات الجديدة المستخدمة لعلاج موضوع عام وإنساني، هو أزمة دارفور وما تسببت به وما نتج عنها.. إنها أزمة إنسانية سببها الظلم وفساد السلطة، وضحاياها عادة ممن لا يشاركون في خلقها.
لكن سميحة خريس في هذا العمل تقدم العناصر التقليدية بأسلوب غير تقليدي، ومن هذه الأدوات والأساليب تقديم حبكة الرواية في نهاية الرواية وبشكل مفاجئ، حين يصل «أدمو» و»بابنوس» مع بقية الأطفال إلى مطار باريس، ويستطيع قراءة المكتوب على اللافتات «أنقذوا أطفال دارفور.. تبنوا أطفال دارفور»، ثم ينكشف هذا الغطاء الإنساني عن أبشع صور استغلال الإنسان في الاتجار بهؤلاء الأطفال ودفعهم إلى الدعارة والضياع.. ثم صناعة ما يشبه حبكة ثانية للرواية حين ينتهي الأمر بـ»بابنوس» وبصديقتها البوسنية التي أطلقت عليها الروائية اسم «عاج»، إلى مجرد جسدين عاريين في «فاترينة» بباريس.
لذلك، فإن الرواية تمتلك عناصرها الخاصة التي تؤهلها لتقع ضمن مسمى «الرواية الجديدة»، وليس هذا لعناصر عناصر خارجة عنها، وهو ما ينبغي قراءة الرواية في ضوئه، وليس استناداً إلى خصائص تُفرض عليها من خارجها كما يرى رولان بارت.
جدير بالذكر أن لغة الرواية العالية ظلت عالية حتى باستخدام المحكية السودانية، بل إنها فاضت شاعرية وعذوبة بتقديم النكهة الشعبية في الكلام والزجل والشعر، الأمر الذي جعل الرواية تبدو كما لو أنها ُكتبت من قِبَل ابنة للمكان، ومن روائية تبدو كما لو أنها بنت التفاصيل الصغيرة الخاصة بنكهة ذلك المكان والزمان.
ويظل أن إهداء الرواية لروح الروائي السوداني العربي الطيب صالح ليس من دون مغزى، وليس فقط لأن الرواية تتحدث عن السودان، وإنما للتلاقي الذي تصل إليه رواية «بابنوس» ورائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، فإذا كانت رواية الطيب صالح تتحدث عن الصراع بين الشرق والغرب، فإن رواية «بابنوس» تواصل هذا الصراع إلى الحد الأقصى الذي يتمثل في سقوط الشرق والغرب معاً بوجود السلطة والمصالح التي تتعالى على مصالح الإنسان وأهدافه المشروعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى