العلبة السوداء

الجسرة الثقافية الالكترونية

د. صفية الودغيري | قراءة بقلم منجية بنصالح

المصدر / وورد بريس

ظلَّت مختبئة خلف ستائر النِّسيان ..
وحين فتحت نافذة الذَّاكرة .. لم تجِدْ إلا رسائِلَها القديمة ..
وأشرطةً حمراء .. وزجاجة عطرٍ ..
كانت العلبة السوداء فارغة ..
لا أعتبر نفسي ناقدة محترفة، لكن لي أدواتي للقراءة ،و مرجعية خاصة تكونت على مدى سنين الدراسة و سنين أخرى لم أنقطع فيها عن المطالعة و النهل من الأدب الفرنسي ومن التراث و الأدب العربي الإسلامي، هذا ما جعلني أقارن بين حضارتين و أميز بين خصوصية كل منهما و أعتبر أن ما أقدمه من مقالات حول نصوص شعرية أو سردية يمكن أن يساهم في الارتقاء بالوعي الأدبي،
للنص تجليات تستحق منا أن نلفت لها نظر القارئ حتى يركز على مكمن الجمال ، و على معاني وتراكيب و مفردات، لها إحاء و إشارة تقول ما لا يقال، و ما تعجز الكلمات على الإفصاح عنه, وما يتوارى بين السطور، فللكلمة حركة ملء عدد أنفاس الحروف التي تتواصل ، تتقاطع لتشكل عالما يختزل دورانا هو طوفان معنى، يختزله نص يجعل من المتلقي صيادا، يلقي شباكه و لا يدري لها مآل و لا حال، هكذا وجدت نفسي أمام نص للدكتورة صفية الودغيري بعنوان العلبة السوداء تقول القاصة :
ظلَّت مختبئة خلف ستائر النِّسيان ..
تقسو علينا الحياة فتختزل الذاكرة نزيف ماض لم يكن لنا فيه اختيار ،نتذكر لنتألم ،و ننسى لنتجاوز انكسارات حياة تسدل علينا ستائرها ،يحتوينا الشوق، يشدونا لحنا و أحلاما نطمح لتحقيقها، وآمالا نصبو إليها، وتبقى الحياة فينا ألم و أمل، حزن وسعادة حب ننتظر قدومه، يتسلق جدران الأيام و يتوارى مع الزمن، ليترك لنا ذكرى يطويها النسيان، نختفي بين ثناياه حتى تستمر فينا الحياة و تقول القاصة:
وحين فتحت نافذة الذَّاكرة .. لم تجِدْ إلا رسائِلَها القديمة ..
وأشرطةً حمراء .. وزجاجة عطرٍ ..

يتحقق بنا ومعنا الحلم ليكون رسائل تحملنا على جناح الشوق إلى حدائق سلام ننعم فيها بلحظات سعادة ، سرعان ما تغادرنا و لا يبقى منها غير ذكرى مكان، وألوان زهرة تفتحت لتسترق السمع وتنتشي على وقع خطى معنى، و همس كلمات ترسم نفسها على صفحات ذاكرة بيضاء،نفتح نافذتها كلما أشرق علينا الحنين، و ملكتنا الذكريات و أخذتنا في جولة عبر أزقة الماضي لنتصفح رسائل قديمة تتجدد، في ذاكرة حملتنا مع ما تبقى منا من أشياء ألفناها…… كانت شرائط وعطور، سُجنت في زجاجة ماضينا الذي نتناساه ليذكرنا ،فكلما فتحنا نافذة الحاضر ،أخذنا إلى ماض سكن ذاكرة أسدلنا عليها ستائر النسيان ،ربما كان ذلك هروبا من ألم موجع، و من أمل لم يتحقق،و من مشاعر عاشتنا و لم نعشها، غادرتنا و أنزوت في ركن سحيق، لتترك لنا ذكرى غابت مفرداتها و لم يبقى منها غير معنى يجوب الوجدان، يملأ الفراغات و يرسمنا كلمات، نتذكرها لننسى و ننسى لنتذكر، أنها كانت هنا …… رسائل و ألوان و عطور لهاعبق زمان المكان….. و تقول القاصة:
كانت العلبة السوداء فارغة ..
يختم النص بفراغ ليس له مبنى لكن له معنى و مغزى حياة لها بدايتان، الأولى كانت في بداية النص و الثانية في نهايته، هكذا جعلت القاصة للفراغ حركة في الذاكرة، فهو الغيب الذي لا ندركه بالعقل المجرد، وهو العلبة السوداء ،و العالم الذي لا يحتويه الوعي، يأخذنا التأمل على مشارفه لنسبح في فراغه الساكن المتحرك، بمعانيه التي لا ندركها لكنها تدركنا لتقيم حولنا حياة أخرى من صنع خيال يكون المُخلّص من شقاء واقع يرهقنا، نتناساه تطويه الذاكرة ليطل علينا من جديد كلما غزت حاضرنا أحداث الماضي …..
للواقع حركة نأثثها بأشياء من حولنا ،نطورها لتكون جزءا من محيط إنساني له حياة و حركة أحداث و ذكريات و مشاعر ، تشكل معنى الوجود ، نعيش بها ومعها دون أن ندرك ما وراءها أو نستطيع التعامل معها بالحواس، فهي الفراغ الذي يسكننا، وهي الحياة الأخرى التي تتفاعل مع العالم المادي، وهي العلبة السوداء التي تختزل الوجود الإنساني لنكون معناه.

لقد تمكنت القاصة من توظيف الفضاء الخارجي لخدمة الفضاء الداخلي بحرفية و ذكاء جعلها ذلك تحفر في عمق الفكرة و توجه المتلقي إلى ما أرادته من إدراك لمعاني عاشتها و أرادت أن يشاركها فيها ،و من ذلك أنها مزجت بين عالمين الأول مرئي محسوس، و الثاني معنوي غيبي، ليكونا متداخلين و في نفس الوقت متوازيين فكان للاختفاء وراء ستائر النسيان شأن ،و لنافذة الذاكرة شأن آخر ، و للرسائل قِدم يتجدد في الذاكرة، و للألوان و العطور حضور الماضي في حاضر الذكريات، لتنتقل بنا القاصة في النهاية إلى عمق آخر تشكله علبة سوداء، يملأها الفراغ ليكون للنص شكل دائري يعطيك انطباع على أنه نص مفتوح لكنه في الحقيقة مغلق فعند نقطة البداية كانت نقطة النهاية، و يمكن القول أن ذاكرة النسيان هي نفسها علبة سوداء فارغة بعد أن تخلصت من كل مفرداتها التي كانت حصيلة زمان المكان.
لقد ابدعت القاصة على مستوى الأسلوب الذي توخته في الكتابة، لنراها تطفو على السطح لتغوص في أعماق الفكرة من جديد، و هذا الانطباع هو ما حصل لي أثناء القراءة رغم قصر النص الذي كانت له كثافة غابة و جمالها المشرق …… كما أنها أبدعت على مستوى التسلسل المنطقي للسرد الذي بدأ متماسكا كنسيج موحد يشد بعضه بعضا، ليكون للمعنى رجع صدى كلمات على مدى النص، حتى أننا نستطيع أن نوازن بين النسيان والذاكرة و بين الستائر والنافذة لتصبح الرسائل أشرطة و زجاجة و لون و عطر ، و تنتهي القصة عند علبة سوادها فراغ، له حجم و معنى وجودي يبقى مفتوحا على عالم غيبي تعيشه القاصة، بعدما تختفي قدرتها عن التعبير أمام عالم مجهول ،يكمن خلف ذاكرة كانت مأوى لأحداث و مشاعر، و رسوم و ركام خلفه الزمان في المكان، ليكون النص دائرة مغلقة باطنه غيب و ظاهره شهادة، و هنا يكمن إبداع القاصة عندما جعلتنا أمام نص مغلق على مستوى الظاهر السردي،ليكون مفتوحا على مستوى المضمون الفكري ،يترك المجال أمام المتلقي حتى يخرج من فضاء القصة ليجد نفسه أمام بعد ثالث هو فضاء ما بعد زمن النص …..
إختزلت القاصة مفردات حاضر الماضي في سطور من وحي ذاكرة النسيان، رسمت خطوطها العريضة لتجد نفسها أمام فراغ غادرته الأحلام و غيب أعطى حياتها وجودا، آخر أدركها و لم تدركه، فكان للحاضر جذورا تمتد على مدى زمان المكان فهو بمثابة الحبل السري الفاصل الواصل بين عالمي الغيب و الشهادة ،بين الذكريات و الأحلام، بين الحضور و الغياب، للحياة حركة و للفراغ معنى في حيز لغوي ضيق، لكنه متماسك له حيوية أعماق المحيط …..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى