القصيدة الشبابية في المشهد الشعري ديوان (اشتباك على حدود الذاكرة) لرامي ياسين … أنموذجًا / د. غسان إسماعيل عبد الخالق ( الأردن)

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
بخصوص الشعر الشبابي
هل ثمة قصيدة شبابية في الشعر؟ وهل ثمة وجاهة –أصلاً- لدراسة الشعر من منظور مقولة الأجيال؟ ألا تنطوي كل فترة من الزمن على عدد من الشعراء الشباب؟ ألا يغدو هؤلاء الشباب بعد عقد أو عقدين من الزمن كهولاً؟ وهل نتوقع –حتمًا- من الشاعر الشاب أن يعبِّر عن انشغالات شبابية في قصائده أم أن الشاعر الشاب يمكن أن يكون كهلاً من حيث الانشغالات، ويمكن للشاعر الكهل أن يكون شابًا؟ وهل (الشبابية) في حد ذاتها، يمكن أن تكون معيارًا للحداثة بالمعنى العميق للحداثة، أم أنها يمكن أن تكون منصة كبيرة لإعادة إنتاج الموروث تحت وطأة الانبهار والانشداد الزائد للتقاليد الشعرية السابقة؟
سأختصر الإجابة عن كل التساؤلات السابقة بالقول: إن إمكانية دراسة الشعر من منظور مقولة الأجيال لا تطّرد ولا تتوفر على الدوام، لكننا يمكن أن نفعِّلها والإفادة منها إذا توفر عدد من الشعراء المتجايلين وعدد من الخصائص الشعرية الخاصة بهم، بحيث يمكن للناقد أن يبرر دراستهم ضمن سياق تاريخي وثقافي واجتماعي وايديولوجي وسياسي مبرر وواضح المعالم. وهو ما سبق لي أن قمت به، حينما تصديت لدراسة (جماعة أجراس) التي انبثقت في العقد الأخير من القرن المنصرم. وأحسب أنها الدراسة التطبيقية الوحيدة في الأردن، وربما في الوطن العربي، التي أنجزت على هذا الصعيد. (قدّمت الدراسة لملتقى عمان الثقافي الخامس في عام 1996، ونشرت في كتابي “تأويل الكلام” الذي صدر في عام 2007).
ومما يؤسف له، أن عقد (جماعة أجراس) لم يصمد طويلاً فانفرط، وتفرقت بشعراء الجماعة السبل، لأسباب تتصل بعدم الانسجام الفكري والتفاوت في الموهبة وضغوطات لقمة العيش. ولم تعقب (أجراس) جماعة شعرية شبابية متميزة، يمكن أن تستوقف أنظار الناقد من الناحية الفنية، رغم تكاثر (المجموعات الشعرية) الشبابية الراهنة، والتي يمكن القول بأنها أقرب ما تكون إلى (النوادي الأدبية) التي لا تمتلك الحد الأدنى من الجوامع الفكرية أو الفنية، فضلاً عن أنها لم تضم شعراء يمتلكون مواهب فردية لافتة. فيما فضَّل عدد من الشعراء الشباب الموهوبين أن يحلّقوا منفردين خارج هذه الأسراب.
* العنوان:
يعد رامي ياسين من أبرز هؤلاء الشعراء الشباب الموهوبين الذين فضلوا التحليق منفردين، فبادر لإصدار ديوانه الأول (اشتباك على حدود الذاكرة) الذي استوى على أربعة وعشرين ساقًا، وتمدد عبر مئة وإحدى عشرة صفحة، واشيًا بشاعر شاب مختلف في معظم ما قال وكتب، لهذا الأب أو ذاك في بعض ما قال وكتب.
وإن كان ثمة عناوين مفخخة بالخديعة الكاملة، فإن (الاشتباك على حدود الذاكرة) واحد منها وقد يكون أبرزها دون ريب. وحتى تكتمل عناصر الإيهام تمامًا، فقد تم تعزيز العنوان بلوحة فاقعة من شأنها أن تختطف آليات تلقي القارئ باتجاه سياق محدّد ودلالة متوقعة ومعنى متداول!
(اشتباك على حدود الذاكرة): عنوان ثلاثة أرباعه أيديولوجي سياسي صرف (اشتباك على حدود) –لكن ربعه الرابع (الذاكرة) تكفّل بإحداث الإزاحة المطلوبة باتجاه الشعر. وهو عنوان عتيق يمكن أن نطالع أمثاله في قوائم مؤلفات الشعراء في الستينات والسبعينات… وربما حتى في أوائل الثمانينات، حينما كانت العناوين تشتق من رحم القضايا النضالية وتحمّص في مخابز الشعب، وقبل أن تهاجر باتجاه غرف ما بعد الحداثة المكيّفة. والحق أنني ما كنت لأستسيغ عنوانًا يفيض بالإيديولوجيا في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لو لم أقف على المفارقة الثاوية في النصوص، فسيمياء العنوان تحيل إلى مناخ فكري وثقافي مألوف، لكن النصوص تركض باتجاه الطموح لإعادة كتابة هذا المناخ، من موقع وموقف وزاوية رؤية مفارقة تمامًا للمألوف!!
* الصورة:
رامي ياسين، لا يمنح قارئه كثيرًا من الوقت، قبل أن يبادر لإطلاق نار الصور باتجاهه دون توقف! إنه في الواقع راجمة صور استثنائية من شأنها أن تمهد الأرض لمشاة التأويل؛ انظروا هذه الزخّة المنتقاة من صوره المرصوصة في أول قصائده التي تدثرت بعنوان (أريد الذي لا يريدون):
– “يكبر الليل فوق زندي / ينضج قليلاً قليلاً كمذاق القهوة / ويسكب على قميصي همّه/… كل سماء تحتمل أسرارًا بقدر نجومها/ وساذج من يعلّق على ليل السماء/ حُلمه”! فلنلاحظ التواشجات الوطيدة التي أقامها بين القهوة وانسكابها على قميص الهم من جهة، ولنلاحظ ذلك التفرّد في تجسيم الهمّ وتحميله عبر القميص الخفيف الثقيل.
– “كيف يمكن للذئاب أن تنبح/ كلّما مرّ كلب”!
لاحظوا أن رامي ياسين قلب الدلالة التاريخية لوظيفة الذئاب والكلاب في ثمانية كلمات؛ فأسند للذئاب فعل النباح بدلاً من الكلاب، وأسند للكلاب فعل الاستعراض بدلاً من الذئاب. هذا فضلاً عما يمكن استحضاره على صعيد التبادل في الأدوار، فها هي الذئاب البرية الجامحة المتمرّدة تستمرئ القبول بدور الحارس ووظيفته، وها هي الكلاب تقفز إلى منصة الاستعراض وتجود على الحراس الجدد بنعمة المرور!
والصورة عند رامي ياسين لا تقتات بالعلاقات والمفارقات الشعرية فقط، بل تقتات أيضًا بالإيقاع الذي يعمل محفزًا إضافيًا للصورة:
“سئمت الوقوف / سئمت الحروف”.. لقد أحال الكلمات إلى مسامير!
“سئمت التفرد / سئمت التمرد”.. لقد أحال الدّال إلى لحظة فاصلة!
وكما أنه لا يدخر وسعًا للرمي عن قوس أبيه الأقرب “محمود درويش” فيبادر لزركشة نصه ببعض (الحِكَم):
– “والهزيمة لا تفرّق بين الساذج والمعتز بنفسه”
– “أأنتظر سنة أخرى كي يستقيم المعنى؟”
– “كيف للحارس أن يبقى متيقظًا / ليحرس ما ليس له؟”
فإنه لا يدخر وسعًا أيضًا للرمي عن قوس “عز الدين المناصرة”، فيبادر لإعادة انتاج الحكمة اليومية الدارجة:
– “والقلب يكفيه ما فيه”
حتى إذا اطمأن بعض الاطمئنان، راح يرسل حكمه المصوّرة باتقان وتؤدة:
– “لا أحد يمسك بأنامل يديك كي يقبلها / ولا يرى سواك / لا أحد يحنو على طفل بداخلك / إلاك”.
– “لا أحد هنا يبكيك لتبكي / فاترك دموعك كلَّها / لجنازة أخرى / وراقب على مهلك: كيف الموت يموت / أو يرتشي الأمل”.
* الظلال:
على أن هذا التدفق الباهر في الشعرية، لا يلبث أن يخلي –بعض الإخلاء- بضع مقاعد لغنائية العاشق والمعشوق في قصائد مثل (ضحكتها) و(كأنها أزرق) و(شغف)، ثم يعود للتدفق مرة أخرى عبر سياقات وقوالب نثرية، لكنها تفيض بشعرية النثر وصوره، بدءًا من (تقديم) وحتى (الخلاص).. هذه السياقات التي راق لرامي أن يسميها (ظلال أخرى) في العنوان الفرعي للديوان.