الهنود الحمر عندما تنتقم لهم الأمهات

منذ رائعته الأدبية «ألف امرأة بيضاء» (1998)، التي تشكل نشيد حب لثقافة الهنود الحمر والمرأة على حد سواء، لم تعد مخفية المهارات السردية والكتابية للروائي الأميركي جيم فيرغوس. مهارات تحضر كاملة في روايته الجديدة «انتقام الأمّهات»، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار Cherche-midi الباريسية، بعد أشهر قليلة فقط من صدورها في نيويورك، ويمنحنا فيرغوس فيها تكملة غير متوقّعة لرائعته المذكورة، بعد ثمانية عشر عاماً على كتابتها.
لمن لم يقرأ «ألف امرأة بيضاء»، نشير إلى أن الكاتب يروي فيها قصة الاتفاق الذي حصل عام 1875 بين الرئيس الأميركي أوليس غرانت وزعيم قبيلة الـ «شايان» الهندية في ولاية نيبراسكا، ليتل وُلف، وأرسلت الحكومة الأميركية بموجبه عشرات النساء البيض إلى هذه الولاية من أجل تزويجهنّ بمحاربي القبيلة، وبالتالي تسهيل عملية اندماجهم داخل المجتمع الأميركي. نساء استُقدِمن جميعاً من السجون، ومع ذلك يتأقلمن بسرعة في محيطهنّ الجديد وينجبن أطفالاً من الهنود، قبل أن تكتشف الحكومة الأميركية الذهب في نيبراسكا، فتنقض الاتفاق وتبدأ حملة إبادة لجميع الهنود المتواجدين فيها.
وفي هذا السياق تعرف الراوية، ماي تود، وصديقاتها اللواتي شكّلن الفوج الأول من ضحايا الاتفاق، قدراً مأساوياً في نهاية الرواية، لن تنجو منه سوى ثلاث نساء، مارتا أتوود والأختان التوأمان مرغريت وسوزان كيلي اللتان لن يحول اختباؤهما أثناء المجزرة دون فقدانهما رضيعيهما من البرد.
من هنا عنوان رواية فيرغوس الجديدة، «انتقام الأمهات». ففي مقدّمة النسوة اللواتي يرصدن حياتهن للانتقام من الجيش الأميركي في هذا العمل، نجد هاتين الأختين المكلومتين اللتين سترفضان خيار العودة إلى «الحضارة» وتقرران حمل السلاح إلى جانب الهنود. وفي وقت تتحضرّان فيه للذهاب إلى أرض المعركة، يصل إلى المنطقة فوج جديد من النساء البيض كان قد أُرسِل إلى الهنود قبل اندلاع الحرب، ويضم السجينات سابقاً مولي ماكغيل وكارولين ميتكاف والفرنسية لولو لارو والنروجية أستريد نوسترغاد والمكسيكية ماريا غالفيز، إلى جانب الأرستقراطية الإنكليزية ليدي هول التي أتت مع خادمتها آنا ألفورد للبحث عن صديقتها ماي تود.
وكما في «ألف امرأة بيضاء» التي وضعها فيرغوس على شكل دفتر يوميات تركته ماي تود خلفها، نقرأ أحداث روايته الجديدة على لسان مولي ماكغيل ومرغريت كيلي اللتين تدوّنان وقائع عامٍ من التيه مع الهنود في أحضان الطبيعة، قبل المواجهة الكبرى مع الجيش الأميركي التي تكون أكثر دموية من المواجهة السابقة. دفترا يوميات إذاً تتناوب فيهما وجهتا نظر مولي ومرغريت، ما يسمح بمقابلة انطباعات النساء اللواتي وصلن حديثاً وتلك اللواتي بقين على قيد الحياة من الفوج الأول. نساء يتشاركن جميعاً ماضياً صعباً اختبرن فيه العنف والتمييز العنصري داخل مجتمعهنّ، ما يفسر تفهمن الظلم الذي يتعرض له الهنود وتبنيهنّ بسرعة قضيتهم ومشاركتهنّ إلى جانبهم في الحرب تحت قيادة المحاربة الهندية الشهيرة بريتي نوز التي تزيّن صورتها غلاف الرواية.
ومثل كل روايات فيرغوس السابقة، يمكن أن نقرأ هذه الرواية كنشيد للحرية والطبيعة. لكنها تشكّل خصوصاً تحية للنساء اللواتي يتمتّعن بشجاعة وعزم كبيرين وبقدرة مدهشة على التأقلم وتقبّل الآخر والتعاضد في ما بينهنّ. نساء يحضرن داخل الرواية كخارجات عن القانون لأسباب مختلفة: تجرؤهنّ على المطالبة بحقوقهن، أو مقاومتهن النظام البطريركي الذكوري، أو ولادتهن في أسفل السلم الاجتماعي، أو بكل بساطة لأنه كان متيسراً في تلك الحقبة التخلص من امرأة عبر إلصاق صفة مجنونة أو مجرمة بها. ولكن كل واحدة منهنّ تنعم بفرصة من أجل سرد قصّتها والتعبير عمّا كان يكبتها داخل مجتمع ينكر أبسط حقوقها، وأيضاً من أجل بدء حياة جديدة أقل عرضة للإكراهات بفضل عثورها داخل القبيلة الهندية التي تحتضنها على ما لم تعثر عليه في بيئتها، أي الاحترام والحب وأشياء أخرى كثيرة غيرهما.
ومع أن الرواية مكتوبة من وجهة نظر امرأتين بيضاوين، لكنها تشكّل سردية تاريخية حول مقاومة آخر القبائل الهندية الحرّة همجية الإنسان الأبيض في أميركا، على رغم إدراكها استحالة الانتصار. وفي هذا السياق، نتعرّف بالتفصيل إلى نمط عيش هذه القبائل وثراء حياتها الروحية المبنية على الاعتقاد بأن «العالم الحقيقي يختبئ خلف عالمنا»، وبأننا بالتالي لا نرى سوى سطح الأشياء. ومن خلال هذه التفاصيل، يتبيّن الجهد التوثيقي الكبير الذي بذله فيرغوس من أجل منح روايته ركيزة تاريخية واقعية وموضوعية. جهدٌ يعكس أيضاً ولع الكاتب بثقافة الهنود الحمر الذي نستشعره على طول نصّه ولا يحول دون توقفه عند قسوة بعض معتقداتهم وتقاليدهم، وعند حروبهم الداخلية.
ومن جهة أخرى، تكشف «انتقام الأمهات» عبثية التبريرات التي يمنحها الإنسان لنفسه من أجل تحليل قتله أخيه الإنسان، دافعة إيانا إلى التساؤل عمن هو «البربري» أو «المتوحش» أو «البدائي» الحقيقي، الإنسان الذي يؤمن بقدسية الطبيعة ويعيش في حالة تناغم معها ولا يميز الناس وفقاً إلى ديهنم أو لون بشرتهم، كالهندي الأحمر، أم الإنسان الذي لا يتردد في إبادة ة شعب بكامله فقط لإشباع جشعه وزيادة ثرائه المادي ومداعبة شعوره بالتفوق، كالإنسان الأبيض في أميركا خلال القرن التاسع عشر.
لكنّ أكثر ما يمسّنا في هذه الرواية هو الأمل الذي يعبر كل صفحاتها وتغذّيه جميع شخصياتها النسائية: أملٌ في حياة أفضل تُغفر فيها الأخطاء المرتكبة سابقاً، أملٌ في عودة الصديق سالماً من محنته، كما حين تقع مولي ماكغيل في الأسر، وخصوصاً أملٌ في الانتقام من المعتدي عبر مقاومته حتى النهاية.
وليس صدفةً أن ينهي فيرغوس روايته عشية معركة «ليتل بيغورن» التي وقعت عام 1876، وألحق فيها تحالُف قبائل الـ «شايان» والـ «سيوكس» الهندية هزيمة نكراء بفرسان الجنرال الأميركي كوستر، على رغم عدم التكافؤ في العدد والعدّة بين الطرفين.
(الحياة)