تأويل الصّمت: قراءة موسيقيّة للوحة ليوناردو دا فنشي

الجسرة الثقافية الالكترونية –الشبكة العربية العالمية -ما الذي يستأثر انتباه الناظر الى لوحة “الموناليزا”، وما الذي أراد دافنشي قوله من خلال هذه المرأة الجليلة؟ أو، ومن جهةٍ مُقابلة، ما الذي ينخطف إليه المتمعن في لوحة جوجان “طيف الأموات يهيمن”، وامرأته التاهيتيّة المستلقية عاريةً!؟

ربما، أن من أهم مظاهر خلق هاتين اللوحتين وأبلغها أثراً ومعنى ينطوي في وَهْدَة العاطفة الغائرة في نظرة امرأة لا وجه لها ـ لها كلّ الوجوه، ما يذكّرنا بوهدة الأوركسترا الغائرة الخافية عن الأنظار في دار أوبرا بايرويت Bayreuth Festspielhaus التي افتتحها فاغنر بأوبرا “ذهب الراين” التي هي بمثابة الجزء الأول من رباعيّة أوبراليّة بعنوان “خاتم نيبلونغ”. فهذا الغور، وهذا الإحجام عن إقتحام حيّز الجمهور، لا يترك مجالاً، لا في “وهدة بايرويت” ولا في “وهدة الموناليزا” أو “وهدة الفتاة التاهيتيّة” للعواطف الحادّة والتفجّرات الصّاخبة، بل يبقى العمل الفني، في جميع هذه الحالات، مساحة عذراء متروكة بلا إلحاح لتخيّلاتٍ تتولّد ساعة الإبداع نفسها وساعة اللقاء الخلاّق المستمر بين العمل الفنيّ وزوّاره.

قد يصح هذا الوصف على “عذراوات” دا فنشي الشهيرات أو غيرها من اللوحات، لكنني سأخصص الكلام في قراءة هاتين اللوحتين وحدهما، فهذا كافٍ لندرك وقع العمق، ونفهم معنى الدخول الى عالم خاصٍّ ونادر يخلخل مدى اطمئناننا ويبعث فينا الأسئلة تلو الأسئلة ـ عالم يحيلنا من الوصف الى الإيحاء، عبر مساحة الصّمت المُخَلْخِلَة.

فما أشبه “النظرة المتنحّية” التي تنبثق عنها معاني الصّمت، بعيداً عن نظام اللغة والخطوط والألوان الذي يسيطر عليه دافنشي سيطرة بالغة، ويثير عند المتلقّي شهيّة التأمّل والترقّب في تزاحم الألوان قبل اكتمال الشكل، هكذا كما في الجنائزيّة الألمانيّةEin Deutsches Requiem  ليوهانس برامز Johannes Brahms ، حيث تتواشج النوتات المتقاربة في الأوتار الأكثر انخفاضاً داخل لوحة الأوركسترا الغنيّة، لتخلق وسطاً للترقّب وخلخلة الرغبة السّاكنة قبل الذّهاب الى مساحة القَوْلِ الصّائت. وما أشبه ألوان دافنشي وخرائطَ ضوئه، في إفساحها للتأويلات، بنوتة (مي ـ ناقصة) E-flat الشهيرة عند فاغنر، والتي ينبعث منها موتيف Motif (فكرة) الراين في أوبرا  Das Rheingoldالغير محكومة بنظام الثيمات  Themes المعروف ببراعته عند هذا المؤلف، ففي الإستهلاليّة prelude الغير معدّلة أو مكيَّفة (unmodulating) تعبير عن الحركيّة الخالدة واللانهائيّة للنهر (نهر الراين Rhein). فها نحن هنا أمام عالمٍ صوتيٍّ متكامل يسكنه الإنسان، معزّزاً بالأوركسترا التي تتحدّى، عند فاغنر، نُظُم الإدراك العاديّة، كما يفعل دافنشي في “الحياة” و “الطبيعة” المتنحّية خلف “صمت” الموناليزا المتحدّث بجميع اللغات، فاتحاً ذراعيه على الجهات كلّها.

لقد عرف جوجان، كيف يصغي الى ألوانه إصغاءاً موسيقياً، وأن يخوض في البناء اللوني والفراغي بأساليب ومفاهيم موسيقيّة، فهو الذي كتب في Diverses choses إن:”هناك أثر ينبع من النظام اللوني ومن لعبة الضوء والظلال؛ هذا بعينه ما نطلق عليه تسمية (موسيقى اللوحة)” (Oviri، ص 160). وكلمة “لعبة” هنا تحيل الى الحركيّة بالضّرورة؛ الحركيّة التي تتداعى فيها ومعها تفاعلات النّقائض والمُختلِفات؛ حركيّة الضّوء والظلال؛ حركيّة الكَشْف والحَجْب.

وإذا ما تأملنا في “النظرة الصامتة” للفتاة التاهيتيّة المستلقية داخل لوحة جوجان (رسمها عام 1892)، وهو المختلف كل الإختلاف في نظام ألوانه عن دا فنشي ومعاصريه، فإننا، وبعد هذا التأمل نصل الى قراءة الألوان قراءة موسيقية، الأمر الذي أكد عليه جوجان نفسه في رسالته الى زوجته (تاهيتي، 8 كانون أول 1892)، التي يصف فيها لوحته هذه، ويشرع في شرح قصده من “النظرة الصامتة” (أو ربما الخائفة) بأساليب غريبة تماماً عن الثقافة الأوروبية السائدة وقتذاك، لكنه أورد في رسالته أن: “الهارمونيا العامة التي تجمع اللون اللّيلكي مع الكحليّ الغامق والأصفر المائل الى البنيّ، هي هارمونيا معتمة وكئيبة، تولّد هَوْلاً يحاكي هولَ رنين الأجراس الجنائزية. والنسيج الأصفر المائل الى الخضرة الذي يحيل الى ضوء مبتذل يربط البنّي ـ الأصفر مع الأزرق مما يتمم بناء الأكورد الموسيقي وتناغماته”، ثم يتوسع في شرح اللوحة موضحاً أنّ: الجزء الموسيقي في اللوحة ـ خطوط أفقية متموّجة، وأكوردات من الأزرق والبني تتآخى وتتخاصر في وحدة مع الأصفر والليلكيّ، مضائين بإشعاعات خضراء متقطعة؛ أما الجزء الأدبي (المعنوي)، فطيف فتاة (حيّة) تتواصل مع أرواح الأموات. الليل والنهار. الجزء المعنوي، كما يقول، هو نتيجة موسيقيّة اللوحةِ وعلاقة اللون بالفراغ واللون باللون بوصفه ضوءاً، وليس العكس.

وفي معرض مقال آخر وجهه للناقد الفني “بونتيناس” (تاهيتي، آذار 1899)، يقول: “التكرار الأحاديّ الطابع (المونوتوني) بالمعنى الموسيقي للون، له ما يدلّ عليه في الموسيقى الشرقيّة”. (إلاّ أن جوجان عرف كيف يحيل هذه المونوتونيّة الى دراما فاعلة، الأمر الذي لا شبيه له، بالمعنى النمطي، في الموسيقى الشرقية).

وفي رسالة الى صديقه “دانييل دي مونفريد” يكتب: “عليك أن تبحث في لوحتي عن (الإيحاء) لا عن (الوصف)، تماماً كما هو الحال في الموسيقى”.

ولن أخوض هنا في “النظرة الموسيقيّة” للون وللطبيعة في نظريات الفن التي تناولها عدد من الفلاسفة بدءاً من شيلينج وحتى نيتشه، مروراً بشوبنهاور، لأنني سأعود الى فاغنر الذي عرف هذه النظريات أفضل معرفة واستخدمها ليبرع في موسيقاه.

نعم، لقد برع فاغنر في نسج الأنغام وجدلها تعبيراً عن شتى أنواع “الحنين العاطفي” passionate yearning لكنّه بقي عاجزاً عن بلوغ الرّضا أو ما يسمّى “لا نهائيّة التعبير” the endlessness of utterance بوصفها تحقيقاً منطقيّاً له، فكان في حاجة الى “الكلمة”.

ولكن، كيف لجأ دافنشي الى “الكلمة” في فعلٍ تشكيليّ محض، لغته تتراوح بين التخطيط والتّنقيط أو التبقيع الإنسيابيّ المتدرّج، أو في لعبة لا تنتهي يتنافس فيها اللون/ القول مع الفراغ/ الصّمت، وهذا كلّه تحت مظلّة الضّوء وقوانينه؟ وكيف تحوّل “الصّمت” في الموناليزا من آلية وأسلوب الى موضوع ودلالة معنوية؟ أو كيف تحولت هارمونيا الألوان الى “طاقة إيحاء” تفتح بمفتاح الصّمت، نوافذ العقل والخيال على لانهائيّة احتمالات الجمال؛ لوحةٌ تتخذ موقف الفاعل في علاقتها مع المتفرّج، تخترقه وتعيد تأويله عبر إصغائه الذي بات شرطاً لهذا الإختراق!

هذا، وفي حين ينوّه فاغنر الى سمفونيّة بتهوفن التاسعة التي اختتمت بنشيد “شيللر” للفرح، (ومن زاويتنا نقول: اختُتِمَت بالكلمة المنطوقة)، ويخوض في وصفها على أنها “خلاص الموسيقى”، The redemption of Music ويكون في وصفه هذا قد صوّر بلباقةٍ كيف تمنح الكلمات، بعد إضافتها الى الموسيقى، بعداً جديداً بالغ المعنى، يبقيها خالدة بحدّ وجودها، (وخاصّةً بعد أن شهدنا ولادتها خلال السمفونية ذاتها، في الحركة الرّابعة منها) حتى بعد أن ينطفئ “الصوت النهائيّ” The finite shutting off of Music.

يمكننا إذن متابعة هذا التشابه في تحوّل دافنشي الى “الصّمت” بوصفه “ثيمة” (موضوع) اللوحة، أو تحول جوجان إليه بوصفه “طاقة إيحاء”.. فما الذي يبقى من هذه اللوحة أو تلك بعد انطفاء ضوئها في أنظارنا غير “الصّمت المُحْجِم” أو “الصّمت الرّماديّ” الذي لا يقول شيئاً بعينه مفسحاً المجال لكلّ المعاني والتأويلات.

الإقفال (shutting off) إذاً، هو ما يفسح للكلمة أن تتابع ما عجزت عن قوله الموسيقى، وهنا، في الموناليزا أو في “طيف الأموات يهيمن”، نحن أمام حالةٍ ترادف فيها الصّمت مع تأويل الكلام.

في الحركة الرابعة من سمفونيته التاسعة، فتح بتهوفن نوافذ اللّغة مُطلقاً ما عجزت عن قوله الموسيقى، وفي هذا الفعل تحديداً وجد فاغنر دلالة الإفتراق والتلاقي بين الصّوت والكلام في النسيج الآلي السيمفوني عند بتهوفن. فها هي اللغة المنطوقة هنا تتحدّى صمت النهاية، لا بل الموسيقى نفسها، بوصفها صمت اللغة أو اللغة البكماء؛ لغةٌ لا تقول الأشياء بل، وببساطة، تكونها.

ولكن، يبقى السؤال المطروح في سر مخاطبة السمفونية التاسعة قلق فاغنر وإنجازاته، في حين، وهو المؤلف الأوبرالي العظيم، لم تخاطبه أوبرا “فيديليو” Fidelio، التي أعاد بتهوفن كتابتها ثلاث مرات. فهل منبع ذلك أنها أكثر قابليّة للخضوع الى الصّمت أو السلبيّة؟!

لكن، لا شك أن “فيديليو” تبقى، في سياقها التاريخي، أوبرا لا تقلّ إشكاليّة عن أوبرا “النساء هكذا” Cosi fan tutte لموتسارت، من حيث تنطلق الحبكة الدراميّة، من التآمر الخسيس الى المأساة الكبرى دون فاصلٍ واضح وصادق، وكثير من الأحداث تترافق، وبلا مبررات واضحة، مع تدخّلاتٍ ربّانيّة عبثية!

لست معنياً هنا أن أدخل في تفصيلات “فيديليو”، لكن ما من شك، وكما لاحظ إدوارد سعيد ومن قبله ثيودور أدورنو، أن فاغنر ربط، مثله مثل بتهوفن، وربما بشيء من السّذاجة، بين الحياة من جهة وبين الإبداع الموسيقي من جهة ثانية، كذلك الربط بين السجن أو الموت من ناحية وبين الصّمت من ناحية أخرى.. (يمكن القارئ أن يراجع “نيبلهايم” Niebelheim عند فاغنر وزنزانة بيزارو Pizarro عند بتهوفن، حيث لا يخيم الصّمت بعد النغم الأخير في كلا الحالتين).

في هذه المنظومة، نلاحظ أن “الموت” هو المرادف الوحيد للصّمت، وربما من هنا تحفظ المخرج السينمائي الروسيّ “ساكوروف” على تصوير الموت في فيلمه الشهير “مرثية روسيّة”، حيث اكتفى بدقائق من الظلام تلفظ من خلالها أنفاساً أخيرة ليفتتح بها “تاريخ روسيا”!

وفي هذه المنظومة، حيث يتخذ الموت من الصمت وجهاً، مقاربة لسرديات شهرزاد حيث لا يعني التوقف أو (الإقفال) غير الموت. ولكن، تبقى، بلا شك، جدليات فاغنر وبتهوفن أكثر عبثية من عالم شهرزاد الخرافي من حيث التأكيد على انعدام الخلاص والفرج؛ الصّمتُ هنا، مَوْتِيّاً أو إقْفالِيّاً، يتحوّل الى دراما تستأنف المعنى وتؤجّله بدلاً من أن تُغلِقَ عليه؛ الصّمت هنا ليس “نهاية الحياة” كما أنه ليس “بداية الموت”، بل تلك اللحظة الإرتجاجيّة ـ لحظة اللقاء الإفتراق، حيث تستأنف الحياة معناها في لقائها الإفتراقيّ مع الموت ويسترجع الموت معناه في افتراقه المُلتقى مع الحياة؛ الصّمتُ البَرْزَخُ.

.2.

ولو مررنا، على سبيل المقارنة، سريعاً على بعض نصوص للكاتب القصصي والمسرحي الروسي “تشيخوف”، والذي تمتّعت نصوصه المسرحيّة بمساحات (عدوانيّة) معقّدة من حيث تفاعلها مع المتفرّج وتأثيرها عليه ـ المتفرج المعني بوسائل وأدوات الفن: الكلام والصّمت، والإيقاع والزمن، الصّوت، النبرة الخ… هذه النصوص التي أشار العديد من النقّاد الى قدرتها على تمثيل وحدة الفنون بمنمنماتها وتعددية طبقاتها الشبيهة بالطّباقيّة الموسيقيّة Counterpoint. فمن جهة، تتمتع بإيقاع دراميّ متشابك (بوليفوني) ولوحات نصّية دراميّة تتشابه مع الأنسجة الموسيقيّة اللونيّة القائمة في التوزيعات الأوركسترالية والإستخدامات الآليّة أو الصّوتْبَشريّة. وفي مقالة له (عام 1914) حول رسائل تشيخوف، أشار س. كوانين الى مدى دقّة ورهافة التماثل بين الكلمات والأفكار عند تشيخوف.

لكن ما يعنيني، ودون الدخول في مزيد من تفصيلات لموسيقيّة النصّ عند تشيخوف، تاركاً ذلك لبحث آخر، لكي أتركّز في فكرة “إشتغال الصّمت” المرتبط، بطبيعة الحال،  بميكانكيّة الفعل الدرامي الصّوتي وتطوراته، فلا يمكن مثلاً لديالوج “نينا” و “تريبلييف”، الذي لا يشبه في إيقاعه الشّعري وسرّه المتواري بين السّطور وخصوصياته في التعامل مع فن تنغيم الكلام وتقطيعه أو تلوينه إلا من خلال براعة خاصّة في هذا الفن يمتلكها كاتب السطور وخالق الإيقاع أولاً، ثم الممثلون الذين سيقومون بالآداء لاحقاً. ومن هنا، وبعد أن نفهم كيف تشتغل هذه العناصر في بناء الدراما الصوتيّة ـ النّبريّة، يمكن فهم آليّات “الصّمت” أو “السّكتة” التي هي (وربما كقاعدة عند تشيخوف) تأتي في لحظة الذّروة Climax، حيث تتغيّر الحالة النفسيّة، رغم أنها غير مبنيّة بالضّرورة على قواعد علم النفس النمطي. ففي مسرحية “النورس”، على سبيل المثال، تأتي السّكتة ويهدأ كلّ شيء بعد أن يحكي “شامراييف” نكتة تافهة عن المغنيّة “سيلفيا” ومنشد المجمع الكنسي.

الصمت هنا تعبير عن لحظة، تتعرّى فيها جميع التيارات الخفيّة في النصّ، فتبدو فجأة ظاهرة للعيان، مُفسحةً المجال للرائي أن يتساءل: “ماذا حدث؟”، لكنها لا تتسع للأجوبة، بل تحيل الصّمت نفسه الى بنية قائمة بذاتها تتعدّد معانيها وصورها وفلسفاتها..

.3.

لو تابعنا أحد محاور تطور مفهوم الصّمت ووظائفه الفنيّة في التاريخ الموسيقي، ولو تركنا بتهوفن وفاغنر جانباً بعض الوقت، متّجهين الى آرنولد شونبرغ Schoenberg, Arnold (1874 – 1951)، فإننا نراه ينسلخ، باستقلاله الذاتي وامتناع موسيقاه الشبيه بالشخصية المتمنعة المتمثلة بشخصيّة “أدريان ليفركون” Adrian Leverkuehn عند توماس مان Thomas Mann، في روايته الشهيرة “دكتور فاوست” عن المنظومة الإجتماعية وجدلياتها التي أنتجت شونبرغ وموسيقاه بالدرجة الأولى. فبعد أن تنكّر “الإنسان” لذاته في الفعل الإبداعيّ قبل بتهوفن، متنحيّاً لحساب الخدمة الإلهية، وبعد أن شرع بتهوفن، والرومنتيكيين من بعده، في البحث عن الإنسان في الفن ساعين بعنف الى “أنسنة” الفعل الإبداعي، لكن جنباً الى جنب مع البحث عن الجماليّ داخل الإجتماعيّ، حتى أصبح الإبداع هو نفسه موضوع الإبداع (كما في بعض أعمال بتهوفن المتأخرة؛ سوناتاته للبيانو ورباعياته الوتريّة الأخيرة وغيرها)، وبعد أن تجاوز فاغنر مشروع بتهوفن في تحويل الإنسان الى مركز الفن بدل الإله، نحو البحث عن “إنسانه” هو، بمعنى أن فاغنر فضّل أن يخلق بنفسه إنسانه الأعلى.. بعد هذا الموجز المشهدي السريع لهذا المحور نجد أنفسنا أمام شونبرغ والمدرسة الفِيَنيّة الحديثة متحوّلين الى، وبتعبير ثيودور أدورنو، “وحشيّة الفن” Inhumanity of art والى “إبطال النزعة الإنسانيّة” عن الفن من حيث يصبح تنظيم المادة الموسيقية هو مرام الفعل الموسيقي الإبداعي، وتلغى حريّة الأنغام مطلقاً. فنحن هنا أمام تحول تاريخي من “النغميّة” الى “اللانغميّة” المترفعة عن اللحن والإيقاع والتعابير الممتعة والحنونة التي عهدتها الموسيقى الأوروبية قبل شونبرغ، الى التعامل الذهني والرياضي مع مجموعاتٍ محسوسة من التباديل وأضدادها An objectivized set of permutations and counterpermutations.

وفي عودة الى الموناليزا، فإن نظرة المرأة الجليلة لا تنطوي على “إبطال النزعة الإنسانية” أو “الجنون” كما هو الحال في صمت “ليفركون” المتعاقد مع الشيطان والمنطلق مع موسيقى شونبرغ الإثني عشريّة النغم. فنحن هنا أمام رؤية استبدلت فيها “تطويرات” بتهوفن وفاغنر المعروفة للموتيفات الموسيقيّة و”الإستنفاذات التامة” للطاقة الكامنة في التناقضات الناشئة داخل المواد الأولية للعمل الفني (خاصّة في مبنى السوناتا) من أجل تعميق احتداميّة التصعيد الدرامي في البناء العام للعمل الفني، استبدلت بإعادة “الصوت” الى أصله من خلال موتيفٍ غنيّ، كما يفعل “مان” في روايته.

كذلك، فإن صمت الموناليزا لا ينحدر  نحو “جنون” المعلّم (ماستر) في رواية ميخائيل بولغاكوف “ماستر ومرغريتا”، حيث تحوّل فعل الصّمت الى مرادفٍ لفعل الكتابة الصّارخة، ومن خلال مقارنة رائعة وخلاّقة مع صمت “الغانوصريّ” المقلق، الذي خلّد عذابات بيلاطس البنطيّ.

لقد انسلخت موسيقى شونبرغ وأتباعه عن المنظومة الإجتماعية التي أنتجتهم، كما ذكرت، واستعصت أنغامها على السامعين، فهي لم تعد تُعنى بمقولة الجمهور بوصفه سوقاً أو غاية، فانعكس مسارها نحو الصمت كملاذ أخير حتى صار الصّمت هو نفسه موضوعها في مراحل أكثر تقدّماً في هذا المحور، وربما عند نقطة هي “مؤلَّف البيانو الصامت” للأمريكي جون كيدج الذي رأى في جميع أنواع الأصوات مادة موسيقيّة وعمل على تقليل أهميّة سيطرة المؤلف الموسيقي على إنتاج الموسيقى، تاركاً فعل الإبداع لعوامل أكثر ميلاً الى الفوضى والصُّدفة منها الى النظام والرؤية الواضحة للمؤلف.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى