جدل المتن والهامش في رواية “مديح لنساء العائلة” / د. غسان إسماعيل عبد الخالق

الجسرة الثقافية الالكترونية -خاص – 

 

* كشف المستور

حينما اطلع محمود شقير على مقالتي حول روايته “فرس العائلة” وكانت بعنوان “البدوي الفلسطيني التائه”، عبّر لي عن دهشته البالغة جرّاء اتجاهي إلى القطع بأن روايته هذه تستلهم تغريبة بني هلال بوجه خاص، لأنها الإطار التاريخي والثقافي الأقرب والأوثق، خلافًا لما ذهب إليه بعض النقاد الذين رأوا تقاربًا بين “فرس العائلة” و”مائة عام من العزلة” لماركيز. محمود شقير عبّر لي عن اندهاشه البالغ بهذا الجزم، لأن الجزء الثاني من الرواية يشتمل على تأكيدات نصية دامغة بخصوص المرجعية الهلالية.

والحق إن الجزء الثاني الذي تدثر بعنوان شعري لافت “مديح لنساء العائلة” لم يشتمل على ما يؤكد المرجعية الهلالية فقط، بل اشتمل أيضًاعلى مرجعية ثانوية كنت قد لمّحت لها في مقالي الأول، وأعني بها “شهرزاد” بكل ما يمكن أن تحيل إليه من سياقات تتصل بليالي السمر العربية، فضلاً عن أدب السيرة النبوية وأدب الرسائل وأدب المنامات وأدب الرحلات. 

على أن أخطر ما تكفّل الجزء الثاني من الرواية بالإعراب عنه، يتمثل في الإفصاح عن شخصية السارد العليم الذي جثم على الجزء الأول بضراوة لافتة، ولم يتم الكشف عنه، ما جعل القارئ يتساءل محقًا: مَن مِن شخصيات هذه الرواية الذي يملك كل هذه القدرة على السرد، ويتغلغل إلى هذا الحد في أدق تفاصيل الحياة البدوية، ومع ذلك يظل متواريًا ومستترًا؟!

وإذ يميط محمود شقير اللثام عن حقيقة شخصية السارد الحقيقي لملحمة “فرس العائلة” وتتمّتها “مديح لنساء العائلة”، نفاجأ بأن الفاعل هو ابنه محمد الأصغر، الكاتب المغمور الذي يعمل في إحدى محاكم القدس، المثقف البرجوازي الصغير، والليبرالي الوجودي الجبان! وكأن محمود شقير يتعمد إيقافنا أمام هذه المفارقة الصاخبة: شتّان بين الأسطورة والحكاية، شتّان بين البطولة والتفصيل، شتّان بين المتن والهامش! مع ذلك، ولأسباب تستحق التأمل طويلاً، فإن الهامش هو من يكتب المتن دائمًا… أو غالبًا! كما أن الصّغار هم من يتولون كتابة تاريخ الكبار، ربما لأن الكبار كان لديهم دائمًا ما يفعلونه أو يقومون به ولم يمتلكوا الوقت الكافي للكتابة، فيما أن الصغار كان لديهم دائمًا ما يقولونه أو يكتبونه، لأنهم لم يكن لديهم ما يفعلونه أو يقومون به سوى الكلام والكتابة.

وفي خط مواز لتغريبة بني هلال، يتابع محمود شقير كتابة تغريبة عشيرة العبدلات في طور أفولها وتفرقها وانحلالها، تحت ضربات مستجدات العصر ومواكبة المدنيّة؛ فكما أن بني هلال انطلقوا من جنوب مصر مدجّجين بروحهم القتالية العدوانية الضارية، واجتاحوا المغرب العربي ثم ما لبثوا أن رُدّوا على أعتابهم، بعد أن جرّدتهم ثلاثية “الماء والخضراء والوجه الحسن”، من قواهم البدوية الغامضة، ها هي عشيرة العبدلات التي احتملت حروب الصحراء وقيظها وجفافها وغموضها، وتصدت لعسف الأتراك وغطرسة الإنجليز ولؤم اليهود، ها هي تبدأ رحلة الهجرة من قمة العصبية القبلية باتجاه سفح الذوبان في تفاصيل الحياة المدنية اليومية بدءًا من عام 1948، العام الذي قضمت فيه الصهيونية العالمية الجزء الأكبر من مساحة فلسطين على مرآى ومسمع من كل القوى العالمية وبإغضاء مكشوف لبعض العرب! وتمامًا، كما سبق لابن خلدون أن نظّر وقال؛ فالدول والجماعات مثل الأفراد، لها دورة حياة محتومة لا تتغيّر، تشبّ وتقوى بالروح القتالية البدويّة وتظل محتفظة بكل عنفوانها، ما ظلت محافظة على روحها الخشنة البريّة، ثم تأخذ بالأفول والذبول ما إن تخالط هذه الروح ماء الحضارة والمدنيّة.

* فتّش عن النساء!

ما يدفع الناقد لرفع حاجبيه، مرة ومرتين وثلاث مرات، لايتمثل في التوظيف المذهل لتغريبة بني هلال ولمقدمة ابن خلدون التي وثّقت ما فعلوه بالمغرب العربي حتى انقلبوا على أعقابهم فقط، بل يتمثل أيضًا في استدخال مَقاتل دولتي المرابطين ثم الموحدين؛ الدولتين البدويتين القويتين اللتين أودت بهما وبروحهما القتالية العارمة، سطوة النساء وهيمنتهن على مفاصل التفاصيل الدقيقة، كما حدث في “فرس العائلة” ثم في “مديح لنساء العائلة”؛ فظاهر السرد يوحي بأن (الشيخ منّان) قد ظل الآمر الناهي حتى لفظ أنفاسه الأخيرة في الثمانينات، لكن مضمر السرد يحيلنا إلى حقيقة أن الشيخ الكبير، ومنذ أن اتجه بعشيرته نحو تخوم القدس، لم يفعل في جلّ ما أقدم عليه، أكثر من أنه ظلّ يحاول السير متوازنًا على حبال زوجاته، محاذرًا السقوط من جهة، ومحافظًا على إرضائهن جميعًا، في الوقت نفسه، وهو ما حوّله في المحصلة النهائية، وبدءًا من عام 1948، من محارب بدوي يأمر فيطاع ويغضب فيغضب له كل أبناء العشيرة، إلى معيل بائس لعائلة كبيرة، انتقلت من الاعتماد على نمط الحياة الرعوية إلى نمط الحياة الوظيفية، وتفرّق أبناؤها وبناتها في أحياء القدس وعمان وحيفا ورام الله وبيروت والكويت وصولاً إلى ريودوجانيرو، بحثًا عن لقمة العيش التي يمكن أن تسد رمقهم وترفد رب العائلة (منّان) ببعض الدخل الإضافي الذي يمكن أن يبقي على ماء وجهه الذي أراقته تحوّلات الحياة والسياسة، إلى درجة أنه لم يعد قادرًا على الحيلولة دون إلزام العشيرة بالإجماع على مرشح سياسي واحد في الانتخابات النيابية، فولده الأكبر مناضل شيوعي، والأوسط سمسار انتهازي، والثالث أفّاق في البرازيل، والرابع كادح في الكويت، والخامس سلفي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، والأصغر كاتب مغمور في محكمة شرعية، ويحلم بأن يصبح مطربًا أو ممثلاً سينمائيًا أو كاتبًا مسرحيًا، حتى إذا باءت كل محاولاته بالفشل، تفرّغ لكتابة سيرة العائلة.


* الملابس الداخلية الصانعة للأحداث!

والحق أننا لو تأملنا مصائر تغريبة عشيرة العبدلات، لأدركنا أن هذه المصائر، كلاً على حدة، تقع على مسافة ما بين حدّي السروال والمايوه! وهما الحدّان اللذان يلخصان الرحلة التي قطعتها العشيرة على طريق التنازل التدريجي والقسري عن كثير من قناعاتها البدوية الراسخة على وقع ضرورات الاستجابة لاستحقاقات لقمة العيش؛ إذ فيما مثَّل السروال النسوي السابغ معادلاً موضوعيًا للذات البريّة المصانة فقد راح هذا المعادل الموضوعي يتآكل شيئًا فشيئًا؛ فغدا مجرّد سروال قصير يلبس تحت الثوب البدوي الذي سرعان ما أصبح فستانًا طويلاً ناعمًا “ماكسي”، ثم تقاصر فأصبح تنورة تكشف عن الركبتين، وصولاً إلى امتلاك الجرأة على خلع الثوب والتنورة والاكتفاء بارتداء المايوه، كما فعلت سناء زوجة سارد السيرة في مدينة “ملقا” بإسبانيا! وفي موازاة هذا المعادلات الموضوعية أو الملابس الداخلية الصانعة للأحداث، ثمة معادلات موضوعية أكثر انكشافًا للقارئ، عملت بالتوالي على خلخلة المنظومة الفكرية والنفسية والأخلاقية لعشيرة العبدلات، مثل الكهرباء والراديو والتليفزيون والثلاجة والغسالة، التي تكفّلت تباعًا بتطبيع إمكانات إقدام العديد من أبناء عشيرة العبدلات على الالتحاق بمهن ووظائف هامشية ليس أقلها قيمة، العمل جرسونات في بعض المطاعم والحانات والنوادي الليلية!

على أن نساء العشيرة اللواتي اضطلعت رغباتهن وطموحاتهن ومكائدهن، بدور الأحصنة التي جرت خلفها أشواق الرجال لإرضائهن وإشباع حاجاتهن المستجدة، لم تسلم بعض أدوارهن التاريخية من الاهتزاز الشديد بفعل المنافسة الضارية التي تمثّلت في ضرة استثنائية لم تخطر لهن على بال، ألا وهي التكنولوجيا!، فقد راح الراديو ثم التليفزيون، يختطف منهن تدريجيًا، دور جدّتهن شهرزاد، ويحرمهن من التمتع بامتياز الحكايات وتشكيلها دون أي تخوّف من شعور المستمعين بالملل، ما أجبرهن على تحجيم هذا الدور وتكثيفه، لأن وقت المستمعين لم يعد يتسع لذلك الحشو البالغ الذي كن يزركشن به حكاياتهن، لا بل أجبرهن على التراجع تدريجيًا عن رؤيتهن الشعرية الباشلارية لمفردات الكون، فلم يعدن متحمسات لمواصلة الاعتقاد بأنوثة النار والمرآة والعتمة، وذكورة البحر الذي طالما أغوى النساء.

لقد وظف محمود شقير، على نحو باهر، تلك الحكاية التي اشتملت عليها رحلة ابن فضلان إلى بلاد الروس –وملخصها أن المضيف الروسي فضّل أن ينكشف فرج زوجته أمام ضيوفه على أن تستر فرجها ثم تخونه بعد ذلك- ليفضح حقيقة أن العربي فعل العكس من ذلك، أي أنه في سبيل المحافظة على فرج امرأته فقد تخلى عن أرضه، نافذا من كل ما تقدم، لإضفاء الشرعيّة على العنوان المبجّل الذي رسّم به روايته “مديح لنساء العائلة”! وكأني به يسألنا مقهقهًا: ألا تستحق هذه الكائنات اللطيفة التي ألحقت بنا هذا القدر من الخسائر، كل هذا المديح الطويل المهيب؟!

* قماشة السرد

ويظل السؤال الأهم: كيف أنجز محمود شقير الجزء الثاني من روايته، والذي أتوقع أن يتلوه جزء ثالث؟ لقد أنجزه بلغة سلسة مطواعة متدفقة نتصالح معها منذ الصفحات الأولى لسببين؛ لأن مسارعة الراوي لإخبارنا بأن محمد الأصغر كاتب المحكمة الشرعية هو السارد يجعلنا أكثر قابلية لتقبّل هذا المستوى من السرد السهل الممتنع، ولأن احتشاد أفق الرواية بالنساء بدءًا من العنوان وصولاً للخاتمة يجعلنا أكثر قابلية أيضًا لتقبل هذا المستوى من الأنوثة التي تثوي في تضاعيف السرد، وكأن المجال النسوي الواسع الذي تحرّك السارد وسطه قد منحه قدرة استثنائية على تأنيث سرده، إلى درجة تذكّرنا بذلك المجال النسوي الواسع الذي تحرّك ابن حزم وسطه ودفعه لإبداع رسالته الرائعة (طوق الحمامة).

لقد بلغت لغة الجزء الثاني من تغريبة عشيرة العبدلات، درجة لافتة من الليونة والتدفق إلى درجة أن بعض العبارات التقريرية التي تخللتها لأسباب تاريخية تهدف إلى الإيهام بواقعية السرد، قد بدت ثلما قاسيًا لقماشة السرد. ومما زاد هذه اللغة جمالاً، اتجاه محمود شقير إلى توظيف وتفعيل تقنية الرسائل، متخذًا من تقليد المكاتيب الركيكة المتبادلة بين الشيخ منّان وابنه عطوان عبر السارد محمد الأصغر، نموذجًا نثريًا يمور بتلك الشعرية الشعبوية الطاغية. فضلاً عن اتجاهه لتوظيف وتفعيل تقنية المنامات إلى درجة القدرة على إيهام القارئ بانمحاء الخط الفاصل بين حد الواقع وحدّ الحلم، وترصيع السرد ببعض أنماط اللهجة العامية من جهة وببعض الألفاظ المحكية المكشوفة من جهة ثانية، لتعميق إحساس المتلقي بواقعية السرد وتطابقه مع الواقع شكلاً ومضمونًا. خاتمًا الجزء الثاني باكتمال دائرة حياة الشيخ منّان بموته الذي مهّد له باتجاهه إلى معانقة لحظة رفّة الفراشة التي قادته إلى مصيره المحتوم، وأعني بهذه اللحظة، إصراره على التوجه إلى أطلال العشيرة في تلك الصحراء البعيدة الغامضة. ويا لها من خاتمة شعرية، تلك التي وقّع بها محمود شقير الجزء الثاني من ملحمة عشيرة العبدلات: (مات أبي منّان مساء الخميس، ودفناه صباح الجمعة)!!!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى