جمال الجلاصي: التّعبير شعراً أو قصّة أو مسرحاً أواني مختلفة الشّكل لكنّ الماء واحد

لجسرة الثقافية الالكترونة

 

محمد الحمامصي

 

يعد الشاعر والروائي والمترجم التونسي جمال الجلاصي واحداً من أهم المثقفين والكتاب التونسيين والعرب المنفتحين على التجارب الكتابية المتنوعة عربياً وعالمياً.

 

يكتب الشعر بلغة خاصة لا تلمح فيها صراخاً خطابياً ومباشراتياً على الرغم من اهتماماته النقابية، لغة هامسة ميالة إلى النثر ـ الشعر (قصيدة النثر) حيث يتموضع كتابياً وشعره مع ذلك محمل بقضايا مختلفة تكتنفها قضيته الخاصة.

 

يعيش حالاته الإبداعية كما هما ــ هو وموضوعه ــ إذ يبتعد عن الشعر تماماً في حالاته السردية، فيأتي سرده قصاً وحكياً متناغماً مع بناه السردية ومشغولياته. وهو كذلك حين الترجمة حيث لا تقع ترجماته في الشعر.

 

من مجموعاته الشعرية “لا مجد لصوتي خارج أغنيتها” و”أعشاب اللغة”، وفي الرواية له “الأوراق المالحــة” و”باي العربان” التي حصل عنها على جائزة لجنة تحكيم مهرجان “كومار الذهبي” للرواية التونسية، وهي رواية من النوع التاريخي بطلها المناضل علي بن غذاهم الذي قاد ثورة سلمية سنة 1864 ضد مضاعفة المجبى قائلا: “نحن طلاب حق، وثرنا لرفع مظلمة”.

 

وترجم الجلاصي الأعمال الشّعرية الكاملة لليوبولد سيدار سنغور “الزنوجة ثلج آخر في اللغة الجديدة”، ورواية الإله الصغير عقراب لروبرت إسكاربيت، ورواية “إضراب الشحاذين” للكاتبة أميناتا ساو فال، ورواية “السيد الرئيس” للكاتب الغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس.

 

بدأ الجلاصي روائيا ثم اتجه للشعر ثم الترجمة، ومن هنا أكد أن فعل الكتابة الإبداعيّة كلّ لا يتجزّأ فالتّعبير شعراً أو قصّة أو مسرحاً هي أواني مختلفة الشّكل لكنّ الماء واحد.

 

وقال “لقد بدأت في أواخر الثّمانينيات بنشر أولى قصصي القصيرة وقصائدي في الصّفحات الثقافية للجرائد والمجلاّت التونسيّة. وفي أواسط التّسعينيات حينما بدأ أبناء جيلي في نشر أولى دواوينهم ومجاميعهم القصصية بدأت أكتب “سرّيّا” رواية “الأوراق المالحة” التي نُشرت سنة 2004، وكانت رواية هموم الجيل والمرحلة، رواية تهشّم الأحلام الكبرى في الوحدة والعدالة الاجتماعية. وبالتّوازي كنت أحاول ترجمة بعض النّصوص الشعرية لشعراء فرنسيّين أمثال بودلير ورامبو وفرلين وبول إيلوار وغيرهم وكنت أكتفي بقراءتهم في حلقات ضيّقة للأصدقاء، أو في الملتقيات الأدبية لشعراء التّسعينيات التي ستمثّل النّواة الأساسية لمستقبل الحركة الأدبيّة في تونس كما في مختلف أقطار العالم العربي رغم اختلاف التّسميات.

 

ونشرت في الأثناء مجموعتي الشعرية الأولى “أعشاب اللّغة” سنة 2007 عن دار إنانا للنشر، ثم ديوان “الإقامات” عن منشورات وزارة الثقافة الجزائريّة”.

 

وأضاف “بعد ذلك كان العروج نحو التّرجمة باعتبارها دبلوماسيّة الحضارات وقارب تهريب أرواح إخوتنا وأخواتنا الشّعراء البعيدين واستضافتهم في حقل لغتنا العربيّة. فنشرت تباعاً السّيد الرئيس لأستورياس الحائز على جائزة نوبل للآداب، و”إضراب الشّحّاذين” للرّوائيّة السّنغالية أميناتا ساو فال عن مؤسسة أروقة للدّراسات والترجمة والنّشر، القاهرة 2011 و2013. ثم الأعمال الشعرية الكاملة للشّاعر الرّئيس ليوبولد سيدار سنغور عن الدار التونسية للكتاب. ثم نشرت دار الجمل الطّبعة الثانية من السّيد الرئيس سنة 2015 ورواية “الإله الصّغير عقراب”.

 

وأنا أعمل حاليّا على ترجمة مختارات من الشّعر الفرنسي من القرن السّابع عشر حتى بدايات هذا القرن ضمن مشروع ضخم تموّله مؤسسة “مشروع كلمة” تحت إشراف المترجم والشّاعر العراقي كاظم جهاد.

 

وقال: قد انتهيت من ترجمة كتابين: مختارات ألفريد دي موسسيه وألفريد دي فينيي، وهما من شعراء القرن التّاسع عشر ومن رموز المدرسة الرّومنسيّة. وأنا منهمك الآن في ترجمة عمل روائي أفريقي للرّوائي أحمدو كوروما “الله ليس مجبراً” لمؤسسة أروقة للدّراسات والترجمة ولنشر”.

 

الشاعر القارئ

 

ورأى الجلاصي أن الشّاعر عليه أن يقرأ الرّواية وكتب علم الاجتماع وعلم النّفس والتّاريخ والفلسفة، فالكتابة الشّعرية الخالية من الثقافة الشّخصية للشاعر تكون عادة سطحيّة “مشاعريّة” خالية من العمق المعرفي الذي تتطلّبه قصيدة النّثر الحداثيّة.

 

كما أن الرّواية تكسب الشّاعر سمة السّارد وخاصة في جانب اهتمامه بالتّفاصيل واليوميّ. طبعاً الرّواية التي لا تتعلّم من الشّعر شفافيّة اللّغة والصّور والتي لا تُحلم القارئ بطيران اللّغة لم تعد تشدّ القارئ الجديد المطّلع على آداب الحضارات الأخرى التي تمتزج فيها الرّواية لشتّى أنواع الفنون الكتابيّة الأخرى لتتحوّل الرّواية في رأيي إلى “أم الكتابة”، أو الكتابة الجامعة.

 

الترجمة فعل حب

 

وأكد الجلاصي أن الترجمة فعل حبّ ورسالة. وقال “أقوم بها لأمنح النصّ المترجم جناحاً إضافيّاً. أنا لا أترجم بناء على طلب دار نشر أنا أترجم ما أعشق. ولا أهتم بالاسم كبيراً كان أم صغيراً، لا أهتم إن كان شعراً أو رواية أو قصّة قصيرة.

 

أترجم ثمّ أبحث عن ناشر مجنون مثلي لننشر الكتاب ونقتسم الفرحة والخسارة. المهمّ هو أن تقتنع بالكتاب، فأحيانا يقترح عليك أحدهم كتاباً فتسعد به لأنّه يفتح لك طاقة جديدة لم تكن تتصوّر أنّك بالغها حتى تبدأ بتفكيك رموزها. التّرجمة حافزها التّحدي المستمرّ، والرّغبة التي لا تفارق المترجم ـ مهرّب الأرواح.

 

ظاهرة الإسلام السياسي

 

وفيما يتعلق باستحواذ الكتب التي تناقش أو ترصد وتحلل ظاهرة جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي المتطرف والتكفيري منها والإرهابي جل أعمال المترجمين في الكثير من دور النشر الخاصة حيث تلقى إقبالا ورواجا كبيرا؛ قال الجلاصي “بعيداً عن كل شوفينيّة قطرية أو قوميّة أعتقد أن ما يكتبه المفكّرون العرب والمسلمون لتحليل ظاهرة الإسلام السّياسي أو في تحليل ظاهرة الإرهاب أهم كثيراً مما يُكتب في الغرب (باستثناء التحقيقات الاستقصائيّة والميدانيّة التي يقوم بها بعض الصحفيين المغامرين والتي تموّل أعمالهم دور نشر كبرى).

 

لكنّ كلّ أمّة مغرمة برؤية نفسها في مرايا الآخرين ولذلك كان رواج هذه الكتب التي أعتبرها متوسّطة المستوى لكنّ قدرة دور الّشر الغربيّة على الدّعاية والإشهار يجعل مها حدثاً ثقافيّاً ومعرفيّاً”.

 

وأوضح الجلاصي “في عالمنا العربي نعيش الآن زمن الانطلاقة الحقيقيّة للتّرجمة الإبداعية أو الأدبيّة، ولذلك بوجود أجيال مختلفة من المترجمين الكبار الذي أثروا المكتبة العربيّة أمثال صالح علماني وعبدالقادر عبداللاي محمد علي اليوسفي، آدم فتحي، ووجود جيل جديد استطاع أن يحتلّ مكانة في هذا الحقل الصّعب”.

 

خيول التنوير

 

وأثنى الجلاصي على المترجمين وقال “سيظل المترجمون خيول التّنوير وستظل التّرجمة دبلوماسيّة الحضارات والمترجمون مهرّبي أرواح أخوتهم البعيدين. التّرجمة التي تخرج الإبداع من ضيق أنهار اللّغات إلى محيط التّواصل الإنساني الرّحب. كان وسيظل هناك مرتزقة وسيظل هناك صانعو أجنحة ومترجمون هواة يفتحون لنا آفاقا أخرى عبر تهريب النّصوص الإنسانيّة، وهي في الحقيقة لمسة شكر لمبدعين أحببناهم واستضفناهم في حضارتنا ليس عبر تحويلهم للغتنا بل عبر تطويع لغتنا لكي تكون وعاءً لأرواحهم وأفكارهم”.

 

الترجمة في الصدارة

 

وأشار إلى أن التّرجمة تحتل صدارة المشهد الإبداعي العربي، فهي في سياسات دور النّشر الكبرى في العالم العربي تحتلّ المرتبة الأولى من حيث النشر والتوزيع، وكذلك من حيث القراءة والنّوافذ التي تفتحها للقارئ لانكشاف عوالم أخرى إبداعيّة وإنسانيّة. ولا يخفى على المثقّف قارئا ومبدعاً تلك المقارنات التي تلازم عمليّة القراءة بين روايات عالمية مترجمة، وكتب فكريّة وفسلفية وسياسيّة تغوص في الذّات البشرية وفي الواقع والوقائع، وبين ما يُنشر عندنا وما يصطبغ أغلبه من سطحية وتضخّم أنوات الكتّاب. لكن هذا لن يحجب أبداً المحاولات الإبداعية الجدّية في عالمنا العربي التي لا تفتأ تفتح كوىً تُدخل النّور وتطرد الظلام”.

 

المشهدان الروائي والشعري

 

وعن المشهدين الروائي والشعري في تونس وحجم الحراك النقدي المصاحب لهما، قال الجلاصي “في الحقيقة ظلّ المشهد الإبداعي في تونس مرتبطاً أساساً بالحركة الشعرية التي شهدتها تونس منذ حركة الطّليعة الأدبيّة، التي تمكّنت من كسر أفق تلقّي القارئ وجعلته يتقبّل المختلف عمّا تعوّد عليه من شع كلاسيكي. ثم تلاها جيل بداية الثّمانينيات، وهو الجيل الذي تربّى جيلي على نصوصه وتصوّراته للإبداع، وبالتّوازي معه تقريباً ظهرت حركة سرديّة (قصة قصير ورواية) مع أسماء لمعت لكنّها لم تحقّق التّراكم الكمّي المطلوب لتكون تجارب روائيّة هامة باستثناء قّلة منهم حافظ محفوظ، وعبدالجبار العش، ومحمد علي اليوسفي، وفرج الحوار، ومسعودة بوبكر، وآمال مختار وغيرها من الأسماء، لكنّي أعتقد وهذا ليس انتصاراً أعمى لجيلي أن القفزة الحقيقية للأدب التونسي كانت مع جيل التّسعينيات الذي تحول الآن إلى مدار الحركة الإبداعية في تونس شعراً ورواية.

 

هذا الجيل الذي رضع من أثداء متعدّدة وعاش عصر الهزائم وانهيار الأحلام العظيمة لليسار في العالم، ظلّ حالما بتلك المثل حاملا لتلك القيم، لم يكن وفيّاً لمدرسة بعينها بقدر ما كان وفيّاً للتّجريب والمغامرة، هذا الجيل الذي كبر أغلبه في ظلّ ديكتاتوريّة بن علي وانقسم على نفسه، فشق حاول بشتّى الطرق أن يحافظ على مبادئه واستقلاليّته وظلّ مهمّشاً بعيداً عن الأضواء محروماً من الدّعم والانتشار لكنّه ظلّ معادياً للديكتاتورية والظلامية، وشق غمّس قلمه في حبر الانتهازية والوصوليّة وكتب قصائده ونصوصه كما يكتب تقاريره عن زملائه”.

 

الواقع الثقافي التونسي

 

وأضاف الجلاصي أنّ الواقع الثّقافي في تونس مشابه لأغلب ما نشاهده في عالمنا العربي: الحراك الإبداعي والغليان الشعري والرّوائي وغياب شبه كلّي لحركة نقية مواكبة أو موازية، وذلك البرج العاجي الذي تعيش فيه جامعاتنا ونقّادنا إلاّ من رحمه وعيه.

 

في الحقيقة أسماء كثيرة من أجيال مختلفة، برزت في هذه السّنوات القليلة الماضية أضافت وأضاءت المشهد الإبداعي في تونس، فحين أقول حسين الواد أو كمال الرياحي أو شكري المبخوت أو شفيق الطارقي الحاصل على جائزة دبي الثقافية للرّواية، أو أم الزين بن شيخة، حين أقول محمد علي اليوسفي وآدم فتحي وفتحي المسكيني وعلي مصباح في التّرجمة، وفي الشعر المنصف الوهايبي ويوسف رزوقة ومحمد الغزي وعبدالوهاب الملوّح وشكري بوترعة، وجيل جديد يضجّ إبداعاً.

 

إن هؤلاء المبدعين وغيرهم كثر، هم من قاوموا مع المسرحيّين والسّينمائيين المشروع الإخواني وأحبطوه، وهم الآن يحاولون أن يصلحوا ما أفسدته الحسابات السّياسيّة والمصالح الحزبيّة الضّيقة من أجل تونس متنوّعة متعدّدة تتّسع لكل أبنائها الذين يحبّون الحياة لهم ولغيرهم”

 

المصر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى