ذهبتُ إلى “هُنــا ” (3) / ابراهيم جابر ابراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص- 

 

 

(3)

صعدنا للحافلة ثانيةً بعد أقل من عشر دقائق، كانت العتمة تسقط على الأرض بسرعةٍ هائلةٍ كأنها تنزل من مزراب، وأنا أترجَّى الله ان يعطيني خمس دقائق من الضوء فقط كي أرى بلادي. وصلنا الى مكتب الجوازات، حدود “جيش الدفاع الاسرائيلي”، وقفتُ أمام الحاجز الزجاجي الذي وقف خلفه ضابط أشقر في الثلاثينات من عمره. قدمتُ ورقة التصريح بدون كلمة واحدة. قال لي بعربية مكسرة وهو يتفحصني : “مرحبا”. هززتُ رأسي بصمت. تأمَّل في أوراقي وقال لي ” شو جاي تعمل هون ” ؟ قلتُ له باقتضاب ” دعوة لأقرأ الشعر في رام الله”، .. ووجدتني أكملُ في داخلي ” هل فكَّرتم مرة أن تقرأوا الشعر الذي اضطررتمونا أنتم لكتابته” ! لكنَّه قاطع فكرتي السريالية بسؤال بدا لي أكثر سرياليةً، حين سألني بلهجة جادة ” الك خَمولة هون ( حَمولة كلمة باللهجة الفلسطينية تعني عشيرة) ؟”، فقلتُ على الفور : لا. استهجنَ الاجابة قائلا: ” بس انت مولود في جيريكو (اريحا) ؟”، قلتُ له ” انا مش من اريحا، انا حَمولتي في ال48 . في الرملة”. لم تبدُ عليه أي ردة فعل من إجابتي. اعطاني جوازي وابتعدت.

خرجتُ من المبنى الخانق، فاصطدمتُ بفلسطين وجها لوجه.

ورغم أن السماء صافية تماماً، وقفتُ كأنِّي تحت مطرٍ غزير، فردتُ ذراعيَّ على وسعهما وعانقتُ ” حمولتي” الغائبة كاملةً. خلعتُ حذائي وجواربي، ووضعتهما في شنطتي. أحسستُ شيئاً غريباً يتسلَّلُ من قدميّ الى جوّاي، كأنَّما اتصلتُ بجذوري، او مثل ماء انهمر فجأةً على شجرة ناشفة.

قال لي زياد وهو يمدُّ الياء في اسمي كعادته ” ابراهيييييم شو بتعمل . بدك تظل حافي هيك؟ “، لم أجبه، كنت أحدِّقُ في اسمي ! للمرة الأولى أسمعُ اسمي في مكانه. لأول مرة يناديني فردٌ من “حمولتي”. 

قال لي ” تبدو مثل طفل انولد. تعال أصوّرك يا طفلنا” !

ولاحقاً حين رأيتُ الصورة أحسستُ فعلاً أنها صورة طفل لم يسافر مرةً واحدة من “هنا”.

ركبنا سيارة أجرة لنذهب الى الجانب الفلسطيني.

على مدخل المركز الحدودي الفلسطيني، كانت يافطة كبيرة وعريضة ترحب بـ” العائد الكبيـر” و” مبدع فلسطين” و” لا بد للطيور من العودة لأعشاشها” ، لم أستطع التنفس حقيقةً، وقلتُ لي : أستطيع أن أختم زيارتي هنا وأرجع لمنفاي، هذا العناق الحميم أكثر ممّا أردت، وأكبر من حاجتي !

مشيتُ خطوتين كانت يافطة أخرى ” شمس إضافية تشرق اليوم على مخيم عقبة جبر . مرحبا بالكاتب ….. الذي هُجّر من المخيم نجما صغيرا ويعود اليه الآن شمساً كبيرة”.

نظرتُ الى أعلى، على درج المركز الحدودي، كان جمعٌ من الأصدقاء، مع حفظ ألقابهم الثمينة، ماجد أبو غوش، سامح خضر، ميساء الخطيب وابنتها، محمد سباعنه، إياد العالم، ورجال رسميون منهم نائب محافظ أريحا، ومستشار وزارة الحكم المحلي محمد قاروط ابو رحمة، وأمين سر حركة فتح جهاد أبو العسل، ومدير الحدود الفلسطينية، ومسؤولون تنظيميون وأمنيون، وصحفيون. وكمن يعيد للبيت طفلاً تائها يشدّه من كمّه، أدخلوني الى قاعة التشريفات، جلستُ كضيف رسمي الى جانب نائب المحافظ لالتقاط الصُوَر، ولكنني كنتُ أتفلَّت بعينيّْ، أتطلعُ في الجدران، في الأبواب، في النسور على اكتاف الضباط، في الطاولة، في كأس الماء، في ملابس الناس المحيطة، في مفاتيح الكهرباء، .. كان الجميع يتحدث معي في وقت واحد، وانا منقسمٌ الى ثلاثين شخصاً يشبهونني كل واحدٍ منهم يقوم على تأمّل شي، أو تفقّد شيء، أو البكاء على شيء !

قلتُ لهم : خذوني الى ” مخيم عقبة جبر”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى