ذهبتُ إلى “هُنــا ” (9) / ابراهيم جابر ابراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
أقف على باب المخيم . مخيَّم “عقبة جبر”؛ مثل عابدٍ حزينٍ ومؤمنٍ على باب مَعبد.
لكنِّي نسيتُ كل الصلوات التي تلزَم لهكذا موقف. رغم أنَّني انتظرتُ هذا اليوم نحو خمسين عاماً بلياليها الطُوال. أقف مصدوماً، حزيناً، فرحاً، طفلاً، كهلاً، ضالَّاً، عائداً، مهتدياً، يائساً، راجياً، باكياً، شاكراً، قانطاً، ولا اعرف ما الذي أفعله، ولا أعرف كم ركعةً هي صلاة الولد الذي اهتدى الى حليب أمِّه ؟
قلتُ لأصدقائي: لنقف هنا. لتبق السيارة هنا، أريد أن أدخل المخيم وأذرعه مشياً. آن لقدميَّ أن تعرفا طعمَ الطريق.
ما حدث لي بعد ذلك كان شيئاً يشبه ما يحدث في الأفلام، أو في قصةٍ مرتجلة تحكيها جدَّةٌ لأطفالها، ولا يشبه الواقع أبداً، لكنَّه كان الواقع.
كان معي ( مع حفظ ألقابهم الثمينة ) ماجد أبو غوش، ميساء الخطيب، حنين الزعبي، زياد خداش، وإياد العالم.
لكنَّ أحداً ما آخر، غير مرئي ،كان يقودني من يدي. ويرشدني بالعلامات الى بيتنا.
كان في أول المخيم موقف باص له مظلة معدنية قديمة وصدئة، كتب ولدٌ ما اسمه عليها: “ابراهيم” !
بعد حوالي ثلاثين متراً كان هناك مخبز قديم مكتوب عليه بالبوية القديمة “مخبز ابراهيم”.
كان الأصدقاء معي يسألون الناس، ويتوقفون عند الدكاكين او العجائز الجالسين على العتبات ويسألونهم هل تعرفون بيت رجل كان هنا قبل 50 سنة اسمه “جابر ابراهيم” ووصفه كذا ووو .. ثم يلتفتون إليَّ بيأس كل قليل ليسألونني: أين كان البيت بالضبط ؟ فأعود أكرّر العبارة الوحيدة التي حفظتها منذ طفولتي: عند المسلخ، قرب العَمَّال ( العَمَّال هو مجرى الماء الصغير، شبه الجدول)، ويلحّ أصدقائي في سؤال الناس الذين يهزّون رؤوسهم آسفين، فيما أنا كالمسرنم أمشي وراء ذلك الذي يقودني، خلف “غير المرئي” يشدُّني من يدي، أمشي خلف العلامات؛ وقد قرأت اسمي اثني عشرة مرَّة كاملةً، مكتوباً في مواقع مختلفة.
قطعنا سوق المخيم، وصلنا منتصفه، سألنا عجائز كثيرين، والبعض كان ينظر لنا بارتياب خشية ان نكون قد جئنا لمنازعة أحد على بيت او قطعة أرض.
مررنا ببيوت طينية مهجورة، وبعضها قد أُغلقت أبوابه بالطوب او الطين، ودخلت بعضها الآخر والذي كان مهجوراً منذ النكسة، بقينا ندخل من زقاقٍ الى آخر، لم نتوقف للحظة، نهرول بأمل، وعند سور قصير من الطوب وقفتُ وأسندتُ ظهري أرتاح قليلاً، لكنني في الحقيقة كنتُ قد سلَّمتُ بأنَّ الأمر انتهى وعليَّ ان أعود، فلا أمل فيما يبدو في العثور على البيت.
لكنَّ “إياد” قال أنَّه سيسأل رجلاً هنا، ربما يعرف أكثر من غيره، دقَّ باب الرجل وإذا به بالمصادفة أحد المسؤولين الذين كانوا في استقبالي على الجسر، أرشدنا الرجل الى بيت رجل آخر قريب قائلاً انه كبير بالسنّ ويعرف أكثر الذين هاجروا.
لففنا شارعين إضافيين ووصلنا للرجل العجوز، كان رجلاً محنيَّ الظَهر، يضع على ظهره شبه لحاف، يمشي بصعوبة، أجلسنا في حديقة بيته التي تشبه غابة صغيرة، وقال ببساطة: نعم أعرفه، أعرف جابر ابراهيم، وأعرف بيته.
لم أكن أصغي جيداً بعد ذلك، وبقيتُ أحدِّقُ في الرجل الذي كان “جار أهلي”، ورجوته وانا أمسح وجهي بيدي أن يقوم ليدلَّنا على البيت.
قال لي، بيتكم من البيوت التي هدمت، أتذكره جيدا، بنى أحدهم بيتاً على نصف أرضه ونمت الأشجار على النصف الآخر. وقادنا الى البيت.
كان البيت هو نفسه بيت المسؤول الذي زرناه قبل قليل وأرسلنا الى هنا، كان هو للمصادفة من بنى بيته على أنقاض بيتنا، والمفارقة الأكثر وجعاً أن السور القصير الذي اخترته قبل قليل من بين كل أسوار المخيَّم لأسند ظهري عليه وأرتاح قليلاً كان أمام بيتنا مباشرة !!
ارتجلتُ والأصدقاء قراراً سريعاً: لن ندقَّ باب الرجل مرةً أخرى، فقد يفهمنا على نحو خاطىء، ثمَّ إنَّ هذا البيت على كل حال ليس بيتنا، فهو بيت حديث بني على أنقاض بيتنا، وليست لديَّ أيُّ رغبة بدخوله.
أكتفيتُ بالسجود طويلاً على باب البيت، ثمَّ .. عدتُ الى السيارة أبكي كَمَن دفنَ للتوِّ بلداً بأسرِها.