«سيتزن فور» للأميركية لورا بويترس.. هل هي مسألة ضمير؟

الجسرة الثقافية الالكترونية
*زياد الخزاعي
المصدر: السفير
«السماء لم تنطبق». أصرّ مدير «وكالة الأمن القومي» الأميركية الأدميرال مايكل روجرز، في حوار مع الصحيفة الأميركية اليومية «نيويورك تايمز» (29 حزيران 2014)، على أنه لن يقولها في وصف بلوى استخباراتية تسبّب بها الخبير الفني إدوارد سنودن وتسريباته المدوّية. ذريعته؟ سعيه إلى أن يكون دقيقاً ومتوازناً في توصيفاته. بيد أن مَنْ شاهد جديد المخرجة الوثائقية لورا بويترس «ستيزن فور» (مرشّح لجوائز «أوسكار» التي ستعلن ليلة 22 شباط 2015)، يتأكد بشكل لا لبس فيه من حجم الضربة القاصمة التي وجّهها هذا الشاب إلى نظام «التجسس» الأميركي. بطل أم خائن؟ هذا لم يكن في حسابات لقاءاتها السرية مع سنودن، التي جرت على مدى ثمانية أيام في غرفة فندق في هونغ كونغ، بدءاً من صبيحة 3 حزيران 2013، ووثّقت اعترافاته بحضور صحافي استقصائي يتعاون مع الصحيفة البريطانية اليومية «ذو غارديان»، يدعى غلين غرينوالد، عمدته رديفاً درامياً لبطلها، ومكلّفاً بتعقّب أضرار التخابر الأميركي الواسع النطاق، باعتباره شخصاً محصّناً على قدر واسع من حرية الفضح، وظهيراً حاسماً للجاسوس الأميركي الشاب. الاعتبارات الشخصية أُزيحت جانباً أمام هول الكشف عن اختراق مقنّن وذكيّ لملفات أشدّ وكالات التخابر غموضاً ونفوذاً في العالم.
«سيتزن فور» هو القسم الأخير من ثلاثية سينمائية حول أميركا ما بعد «هجمات أيلول»، وهو الاسم المشفّر الذي استخدمه المتعاقد الشاب لمكاتبة صاحبة الفيلم المثير للجدل «بلادي، بلادي» (2006) حول تجاوزات الاحتلال في العراق، ليُشركها سرّه المدوّي. حين سألته عن سبب اختيارها، أجاب: «أنت اخترت نفسك»، غامزاً إلى عملها «البرنامج» (2012)، الذي أنتجته صحيفة «نيويورك تايمز» وبثّته على قناتها الالكترونية، عبر ذراعها الإعلامي الخاص بما اصطلح عليه بـ»أوب ـ دوكس»، كشفت فيه عن أحد أوائل «الوشاة الأمنيين» المدعو وليم بيني، الفاضح تجاوزات برنامج «ستيلر ويند» الاستخباراتي الذي ساهم في تصميمه، بعد تيقّنه من أن هدفه اختراق خصوصيات مواطنين أميركيين وليس أعداء خارجيين. هذه الحجة ذاتها التي يقولها سنودن لاحقاً، مبرّراً فعلته فيما يتعلق بحساسيته من سطوة الدولة، وتجاوزات أنظمة في استخدام التكنولوجيا لغرض جمع بيانات شخصية، وتجاوز الشفافية السياسية، ولادستورية نشاطات على شاكلة التجسّس الاقتصادي، وزيادة النفوذ، والاختراقات الديبلوماسية، من بين تحاملات عديدة أخرى أشارت إليها النبرة الاتهامية للفيلم.
لن يتعجّل الفيلم في ملاحقة تداعيات سيأتي ذكرها في فصوله الأخيرة. فزمن وقوعها وسيل تعاقباتها كانا خاطفين بعد نشر غرينوالد الحكاية في الصحيفة البريطانية، وبويترس في الصحيفة الأميركية اليومية «واشنطن بوست». لذا، أبقت المخرجة بنباهة على شطر أكبر من أجواء تلك الخلوات السينمائية. انتصارها الكبير بان في كشفها وجه الواشي ذي الضمير النادر واسمه. اعترافاته حاسمة. لكن، ما أشاع التعاطف مع صاحب جملة «مَنْ يقُل الحقيقة لا يرتكب جريمة» حجم العبء الذي انجلى على ردود أفعاله ونرفزته وتحسّبه الدقيق لكلماته وقلقه على سرية مكانه وخشيته على تواريخ فضيحته وتأمين نشرها، من دون أن تغطي على خصال أخرى أظهرت لطفه وملاحته وذكاءه، بالإضافة إلى شجاعته وعقلانيته اللتين تجلّتا أمام الكاميرا، وقوله: «أنا مستعد تماماً للاعتقال ومخاطره، أو لأي تبعات سلبية شخصية. لكنّي لست مستعداً للمخاطرة بتقليص حريتي الفكرية، ومثلها حرية الأفراد حولي، ممن أراعي حقّهم بالتساوي كما هو لنفسي».
إدوارد سنودن ليس مؤسّس «ويكليكس» الأسترالي جوليان أسانج و»دولته الخامسة». الأخير مزيج من ولع صحافي ينتظر وثيقة سرّية تصله كي يسربها، بينما جنّد سنودن نفسه تماماً لصنع تاريخ انقلابي عملاق عبر تحقيق قرار صغير. صحوة وجدانه أصابت «ثقافة القرصنة المعلوماتية» في قلب تستّرها، ما فسّر إقدام بويترس على افتتاح نصها بقراءات من رسائل الواشي الإلكترونية. شهادات على عزم يتشكّل بتؤدة، وتخطيط متبصّر لـ»حجم الخطورة العالية» لأمنه الشخصي، التي تسايرت (الخطورة) مع ما تعرّضت له مخرجة «القَسَم» (2010) من مضايقات أمنية في بلدها، ألزمتها الهرب إلى برلين واستقرارها فيها ضمن مجموعة دولية تُعرف باسم «منفيو الديجيتال»، وهم ناشطون يستفيدون من قوانين ألمانية تصون اختراقاتهم السايبيرية. دارت حكاية بويترس وشريطها حول التآمر، فكان لا بدّ أن تعزز حججها بعرض مناورات مسؤولي الإدارة الأميركية وأكاذيبهم أمام لجان دستورية. فالمكر الحكومي الذي يراوغ خلف شعار «أمن قومي»، أضحى أمام شجاعتها عنوان دولة بوليسية تسبق الأنانية السلطوية في تمكين أنظمة معقدة، مثل «سيفنت» و «بريزم» و «أكس ـ كيزكور»، كي تتجاوز على حريات أساسية لمدنيي العالم.
أثبتت البسالة السياسية لـ»سيتزن فور» أن الطاقة الخلاّقة لـ»سينما الحقيقة» لن تبور، وهي قادرة على تنوير ضمائر، وتعزيز جماعية كونية ضد غول الدولة السرية وفاشياتها.