فيكتوريا سلموني صوت شعري مجروح

الجسرة الثقافية الالكترونية

*ايلي مارون خليل

 

الشعر ولادة في الحب، في الخير، في الجمال، على إيقاع النفس البهية الإشراق، عبر كلمة تخلق في موقعها، وتنسكب في تعبير منبثق من الذات المعانية والخلاقة، متناغم مع تعابير موقعة وجميلة، ما يؤلف وحدة تامة الانسجام. يأتلق ذلك كله، ويتألق، بوساطة خيال خلاق ينوع، يلون، يؤثر، يوحي، يحيي! ما ينعكس على القارئ الثقيف اللهيف إلى الارتقاء، فيتناغم، هو، مع ما يتلقى، وينسجم، فيأتلق ويتألق، فإذا بالمتلقي يصير القصيدة، وتصير القصيدة المتلقي، فعلاقتهما تشبه، تماماً، علاقة الشاعر بالقصيدة، ذاته الثانية، وعلاقة القصيدة بالشاعر، خالقها الفائضة منه! فينتشي سعادةً، تشعره بأنه كائن فردوسي.

هذا هو الشعر، عند الشاعر. فكيف تكون الحال، إذاً، مع شاعرة أصيلة، ولدت وفي قلبها جراح لافحة، وفي كيانها كله، معاناة إنسانية الأبعاد، فإذا هي نبض الشعر الصارخ؟! لهذه الشاعرة فيكتوريا سلموني، حتى الآن، كتابان: «براعم» (1983)، و «إبحار ضد التيار» (2000)، إضافة إلى مجموعة جديدة، لا تزال مخطوطة، نشرت بعضها في الصحف، وألقت منها في مهرجانات أو أمسيات، هنا وفي الخارج.

أولى مميزات «إبحار ضد التيار»، أناقته الخارجية والداخلية، ما ينم عن رقي ذوق، وحس بالجمال، لافت، ما يشجع عليه، ويحضّ على قراءته. وليس الأمر مهماً، فلأعبر إلى سواه.

ثانية المميزات، مقدمة غنية لجورج جرداق، وهو من هو في عالمي الشعر الراقي، والنقد اللاذع غير الراحم! تضيء هذه المقدمة (ص 7 – 11)، على ما في قصائد الشاعرة من صور مشعة، وخيال يعرف كيف يصطاد الجمال، وبنية شديدة التماسك، قوية السبك، وإيقاع يخصب المعاني، ويستولد الصور! وتالياً، يشير جرداق إلى أن فيكتوريا سلموني «امرأة من شعاع وعطر وشعر، يسكنها الجمال جسداً وروحاً! (ص 11).

ثالثتها الوجدانية الصادقة، مزقزقةً فرحاً ناصعاً كانت، أم منتشيةً حزناً شفيفاً. فصدق فيكتوريا ناصع غير موارب في الحالتين:

«قررت أن أبوح/ بكل ما في القلب من أسراره/ أن أرفع الستار عن حكاية حزينه/ حكاية القلب الذي أحب واحترق/ وعاد من جديد/ يحوم في شوارع المدينه/ كغربة السفينة…/ قررت أن أبوح/ بكل حب عشته وعانق الفشل…».

ثم تجرؤ فتأخذ في التصريح، علانيةً، بأن «فارس القلب»، أضحى لها «بسمة النور»، «فرحة الروح»، تلقى وجهه حيثما كان. وتعلن أنها حلمت به طويلاً، قبل أن تلقاه، ومن لحظة اللقيا، تستقيل من عمرها السابق!

رابعتها الثورة على ما في بعض التراث العربي من ذكورة. فها هي قصيدتها المميزة «ليلى تعاتب المجنون» وفيها تواجهه بأن اسكت! دعني أنا أتكلم فأعبّر عما بي! دع المرأة – الحبيبة تتكلم، فتفيض بما في قلبها، وتصرح بما في وجدانها، وترسم ما في رغباتها… دعني أبح بما أعاني، أسرّ بما أخفي من أسرار روحي! يكفيك ما قلت عني، وبلساني، عبر السنين، فمن أسر إليك بما أعاني؟! من أخبرك بما أشعر، وكيف أشعر؟! دعك مني! يحق لي، أنا، أن أبوح! وبحرية وجرأة تفعل!

إن هذه القصيدة ثورة في شعر الحب. هي ترفض بقاء الحبيبة صامتة خرساء! فلتعبر عما تشعر به. فلتفصح عما تريد. وهي تتكلم، وبالصوت العالي، بلسان أية امرأة معشوقة مكبوتة مخنوقة، تريد البوح ولا تجرؤ! فالمجتمع يمنع! فيكتوريا لا تخاف. تتحدى، جهاراً تبوح، وتريد ذلك لجنس النساء! فصوتها فردي، ذاتي، خاص، وجماعي، عام، كوني! إنه صوت الذات الجماعية المعانية.

خامسة هذه الخصائص، جدة المعاني وبكارتها، وطرافة الكثير منها، ما يؤكد قيمتها. لا تستجدي ذاكرتها، سلموني، إنما تنزل المعاني عبر صور يقطرها خيال دائم الاشتعال، فتنبثق لا تشبه ما قبل. تؤسس، فيكتوريا سلموني، وترسم، وتشير. تؤثر وتوحي. إن متلقي شعرها يرتاح في فضاء قصائدها الواسع، الهانئ، الهادئ على عصف، والعاصف على سكون وطمأنينة، وهي تجعله يحيا حالتها، فإذا الحالتان متشابهتان، وإذا القصيدة خاصة تعبر، في الوقت عينه، عن الـ «أنا» الجماعية، ما يجعل شعرها، في «إبحار ضد التيار» مطهراً للنفس، ومصفياً للروح، فينجو المرء من واقعه المر، مرتفعاً إلى الأسمى، فرحاً، شفيفاً. فحين تتحدث عن عشقها، تتحدث عن عشق سواها. وحين ترسم صورة الحب كما تنظر إليه، إنما تفعل ذلك بلسان كل أنثى! وليس في الأم صدفة، أن تبدأ باعتراف، وتنهي باعتراف، لكأن كتابها، هذا، كله اعترافات… أي تعرية تامة، صادقة، للنفس، ما يشيع جواً من الحميمية في الكتاب بكامله.

السادسة بلاغة أصيلة توجز لا تعمي، حيث يجب، وتومئ لا تقتل معنى بشرح، ولا صورة بإيضاح. مع ذلك لا توغل في غرابة الغموض، ولا في غموض الغرابة، عاملة بقول البحتري: «والشعر لمح تكفي إشارته…»! فارضة، بذلك، على المتذوق، أن يستدعي التركيز والتأمل والتفكير، فليس الشعر ترفاً، ولا تسليةً… مثال ذلك مجموعة قصائد عنوانها الواحد «برقيات حب مستعجلة» (89 – 97)، وهي خمس أكثرها طولاً من أحد عشر سطراً. يُشير هذا إلى قدرة بلاغية مميِّزة ومميَّزة. فهي، وفق العرب، قادرة على أن تقول أكبر مقدار من المعاني، بأقل مقدار من الكلام، نضيف: وأغزر مقدار من الصور، بأقل مقدار من الألفاظ! ما يثبت أن سلموني تتأمل، تتنخل، تقطر الكلمات، لذلك تبلغنا المعاني وتستقر في قلوبنا والوجدان.

السابعة الوحدة العضوية النمائية. فيمكن أن نشبه قصائدها الطويلة، وهي ليست كذلك إلا لغاية تبلغها، بالشجرة المثمرة. هذه مزروعة في تربة، يغذيها هواء وشمس وماء، وتتفرع منها أغصان تزهر وتثمر. والتربة لقصيدة فيكتوريا، هي جذورها في بيتها والمحيط، غذاؤها الموهبة والدربة والثقافة والانفتاح والحرية، أغصانها الفكر والمعاني والعواطف والانفعالات، وأزاهرها البيان الثري المثري، والبديع العفوي التركيب، أما الثمار، ففي أرواح المتلقين وعقولهم والقلوب.

الثامنة نقاوة اللغة وصفاؤها. فالألفاظ مقطرة مشعة نازلة في منازلها، لا يمكنك استبدالها بمترادفها، وإلا قصر المعنى وشحبت الصورة، والتعابير متينة السبك، واضحة الانسياب، حسنة الإيقاع. وقصائد «إبحار ضد التيار» هي إما قصائد التفعيلة، على تنويع في عدد التفعيلات، وفي القوافي، وإما على الأوزان الخليلية الكلاسيكية المعروفة. لقد طوعت شاعرتنا اللغة، وسعتها، نقتها، أحسنت استخدامها في الشكل المناسب، فبدت لغة جزلةً، سخية الصور، رقيقة في مواضع الرقة، قوية في مواضع القوة، تجمعها الأصالة…

يضاف إلى هذا أسلوبا الإنشاء والخبر، ما يجعل النص أغنى ألواناً، وأجمل فناً، وأكثر تأثيراً، وأبعد إيحاء! ومن ثم نقع على أنواع البيان، وهذا يشير إلى التنوع الجميل، وإضفاء الحيوية والحركة والحياة، والتلوين الكلامي – الأسلوبي، ما يحقق شروط الأدب الناجح.

خلاصة الكلام أن كتاب «إبحار ضد التيار» دليل إلى نفسية – شخصية صاحبته. فالشعر تعرية للذات… لرغبة في الراحة النفسية، ومشاركة في الإمتاع والمشاركة والتواصل…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى