قصة أولى اللوحات التي تتجاون المليون

الجسرة اثلقافية الالكترونية

ما كان لشيء أن يهيئ عالم الفن لتلك اللحظة المذهلة من عام 1970، في السابع والعشرين من نوفمبر في صالة كرستي للمزادات، حينما حطمت لوحة حاجز المليون جنيه للمرة الأولى في التاريخ.

كانت تلك اللوحة عبارة عن بورتريه رسمه فالازكويز لمساعده خوان دي باريجا، وفي الأسبوع السابق على المزاد كانت الصحافة الدولية تتكهن في إثارة بالغة بأن اللوحة قد تتجاوز رقم الـ 821482 جنيه المسجل في عام 1961. وكنت في ذلك الوقت قد عيِّنت حديثا ناقدا فنيا في إيفيننغ ستاندارد، وطلب مني محررها المستنير تشارلز ونتور أن أكتب مقالة خاصة عن بورتريه فالازكويز.

كانت اللوحة موضوعة على كرسي في غرفة علوية معزولة في مقر كرستي، وهنالك تركت في نفسي أثرا كبيرا. أتيح لي أن أجلس لمشاهدتها لفترة طويلة، وأدوّن ملاحظات لمقالة نشرت في اليوم السابق على البيع. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يُنشَر لي فيها شيء مصحوبا بصورة منذ بدأت أكتب لستاندرد إيفننغ.

جلس باريجا أمام الفنان لرسم ذلك البورتريه أثناء زيارة إلى روما قرابة عام 1650. وفي اللوحة يمنح فالاكويز لمساعده، ذي الأصل المراكشي، من التقدير والتكريم ما يجود به على الأسبان العظماء في بورتريهاته لهم. وتكمن ذروة بورتريه باريجا في الوجه نفسه. كتبت أقول إن في عيني المساعد “نظرة صريحة واثقة، مليئة بإيمان بالشخص الذي يرسمهما. ولكن الحاجبين الحساسين يحومان قريبين من عبوس الشك أو الحذر. ومع ذلك عرف فالازكويز كيف يقتنص لحظة الثقة التامة حتى وهو يطرح احتمالا لإحساس آخر، يمثل ولا شك بديلا أقل إغراء، وما لفنان بغير هذه القدرات الاستثنائية على التعاطف مع موضوعه أن يتمكن من نقل هذا المعنى العابر بهذه البراعة”.

ورجعت إلى صالة كرستي يوم السابع والعشرين من نوفمبر لتغطية المزاد. كان الجو استثنائيا، وما كان بوسع أغلب الحاضرين أن يصدقوا احتمال أن تتجاوز اللوحة حاجة المليون جنيه. ولكن المزايدات في القاعة التي لم أكن رأيتها من قبل بمثل ذلك الامتلاء والتوتر، فاقت جميع التوقعات. بدأت المزايدات بـ 150000 جنيه واستمرت لمائة وثلاثين ثانية فقط. ولم تتراخ المزايدة بعد تجاوزها المليون جنيها. بل لقد قويت، فمضت حتى تجاوزت في النهاية المليوني جنيه. وبلغ السعر في نهاية المطاف 2310000 جنيها، وكان رقم مذهلا يوشك أن يبلغ ثلاثة أمثال أعلى سعر مسجل قبل ذلك للوحة، فما كان من الجالسين، حتى أكثرهم تمرسا بالمزادات من تجار الأعمال الفنية، إلا أن أصابهم الذهول. ثم انطلق عفويا انفجار عاصف من التصفيق، ورفع مدير المزاد مطرقته، ورفعت اللوحة على عجل، وتلت ذلك عاصفة ابتهاج.

تحلق عشرات من الحاضرين حول تاجر اللوحات أليك ولدنستاين ـ البالغ آنذاك ثلاثين عاما من العمر ـ الذي اشترى اللوحة. كان يجلس في الصف الثاني من غرفة المزايدات ويتحلق حوله فريقه. واستغرق الأمر نحو عشر دقائق حتى يتسنى له أن يشق طريقه للخروج من القاعة. بدا وقد تورد خداه، وخانته الكلمات فلم يجد ما يقوله إلا أن يغمم بأنه “سعيد للغاية”. وأخيرا استطاع أن يقول إنه بشرائه اللوحة قد حقق حلم جده الأكبر ناثان ولندستاين الذي أسس العائلة قبل خمسة وتسعين عاما والذي كان يرى أن بورتريه باريجا ذلك أعظم لوحة وقعت عليها عيناه.

ومضى سوق الفن في طريق إدهاش الجمهور بالأسعار. فذهبت بعد ذلك توقعات كثيرة إلى أن لوحة تيتان الرائعة “موت أكتيون” التي باعها لورد هيروود في صالة كرستي في يونيو 1971 ـ سوف تتجاوز لوحة فالازكويز. ولكنها لم تصل في نهاية المطاف إلا إلى 1680000 جنيه، وأتذكر أنني استشعرت في الصالة إحساسا بخيبة الأمل. غير أن ذلك كان يعني أن الغاليري الوطني في لندن سوف يتمكن ـ بعد مفاوضات طويلة مع مالك اللوحة الجديد بول غيتي ـ من اقتناء لوحة تيتيان في عام 1972. ومضت الأسعار تتذبذب خلال ذلك العقد، ثم مضت تتذبذب مرة أخرى في أواخر الثمانينيات في ثنايا أزمة اقتصادية جسيمة. ولكن على المدى البعيد، ما كان لشيء أن يمنع الفن من مقاومة أوجاع الاقتصاد بل وكسرها في كثير من الأحيان. فاستمرت أسعار اللوحات في الارتفاع الرهيب، سواء كانت من أعمال السادة الراحلين أم الممارسين الأحياء. ولكن ذلك النجاح لا يعني إلا نذيرا لنا بأن متاحفنا اليوم تواجه تحديات مالية أشد خطورة في محاولاتها اقتناء أفضل الأعمال الفنية المتاحة.
….

ذي سبكتيتور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى