لغة الألم في قصيدة ( أبي قد مات) لعيسى ابو الراغب/د. أنور غني الموسوي

الجسرة الثقافية الالكترونية

لغة الألم في قصيدة ( أبي قد مات) لعيسى ابو الراغب
د أنور غني الموسوي

(  أنا وريث المنفى  \ حين ولدت \ كانت امرأة تحمل في جدائل شعرها \ رسائل البلاد\ قصت حبلي السري وأوثقته بالأرض )
عيسى أبو الراغب

انّ اهمّ مكامن الجمال في  اللغة الفنية هو الطاقة التعبيرية و الفرادة في البوح ، كما انّ من اهمّ مظاهر تلك التعبيرية هو توصيل الاحساس و نقل القارئ الى مجال المعنى الشعوري بواسطة اللغة اعتمادا على الاسلوب و ليس على توصيلية اللغة . هنا تكمن الفنية و الجمالية للغة الابداعية ، فبدل أن تبوح بالاستعانة بطريقية و مرآتية الألفاظ و دلالتها على المعاني ،  و يكون فهم و توصيل الاحساس بواسطة القول من اخبار او انشاء  الذي توصله اللغة  ، فانّ اللغة الفنية تعتمد في توصيل الإحساس بأسلوب تعبيري أي على عناصر توظيفية غير القول و الطريقية، و بعبارة ثانية ان القول و الاخبارفي اللغة العادية يكونواسطة بين اللغة و الاحساس المنقول ، بينما في اللغة الفنية يكون الاحساس منقولا بواسطة اللغة بعملية بوح عير توصيل غير معتمد على القول و الاخبار  ، و يكون المعنى حينها عبارة عن شكل للغة العاكسة الاحساس ، فبينما في اللغة العادية تكونالالفاظ عاكسة للمعاني و المعاني عاكسة للإحساس وهذه هي التوصيلية  ، ففي اللغة الفنية تكون الألفاظ عاكسة للإحساس من دون واسطة القول، و انما يكون المعنى شكلا خارجيا للغة .
ربما بهذا الفهم يكون جليا عدم التناقض في بوح اللغة الفنية و عدم اشتمالها على قول حقيقي ، فحينما يقال ان لغة الشعر تبوح و لا تقول ، لا يعني دعوة الى خواء اللغة و تجريدها من المعنى و المضمون ، بل المراد ان ما ينقل بالطريقة العادية ينقل بطريقة غير عادية في اللغة الفنية ، لذلك فاللغة الشعرية تبوح بما تقوله اللغة العادية ، و في عملية البوح هذه تنهدم و تنخرم و تتصدع كثير من منطقيات و معايير اللغة العادية ، و تحلّ محلها انظمة تعبيرية متفردة و عالية تتجلى فيها عبقرية اللغة ، و لا يراد بعبقرية اللغة الا هذه المعنى .
اذن يتبيّن مما تقدم و بشكل سلسل لا يعتريه أي ريب انّ اللغة هي السرّ الاعظم لجمال الكتابة ، و الاسلوبية هي محور و رحى ذلك العالم السريّ . و من البيّن انّ الاسلوبية تتنقل بين مستويات لغوية ثلاث الصيغ اللغوية و حقول المعنى اللغوية  و المجال الوسطي اللغوي . شكل العلاقة و النظام الذي تظهر فيه تلك العناصر الثلاث من جهة  المؤلف هو بوح و من جهة المتلقي هو تعبير ، و الجهة التي ينظر بها الى ذلك النظام مهمة ايضا كعنصر ابداعي . و  بالقدر الذي تظهر فيه غائية الاحساس و الشعور وانّه ما يراد البوح به و التعبير عنه ، فانه ينكشف و بشكل جلي انّ المحورية في عملية ابداع الجمال هو انظمة ذلك البوح و ذلك التعبير ، و الذي يكون الاسلوب مركزيا فيها ، كما انّه ينكشف ايضا ان الاسلوب ليس امرا شكليا مختص بالألفاظ و التراكيب ، و انما هو امر عميق يتسع سعة التجربة الانسانية ، وهذا الفهم للأسلوبية يحقّق توسع في مفهوم الجمال فيشمل جميع مظاهر الحياة و الإنسانية لأنه يهيمن على مجالات المعنى و الشعور وهي أوسعت و أعمق الوجودات و التفسيرات للعالم و الخارج ، و بذلك يكون  وحسب هذا التصوّر النقد الجمالي متوسعا بشكل غير مسبوق و شاملا لأمور تتجاوز الشكل و عناصره  ، بل يغور عميقا في عوالم الانسانية و تجاربها و منجزاتها .
لقد قلنا انّ المحور الجمالي  في النصهو نظام البوح و المظاهر التعبيرية فيه ، و انّ الاسلوبية مركزية في ذلك  النظام ، و لأجل تيسير المضي في تطبيقات هذا الفهم لا بد من عملية دائرية بين صيغ التعبير و مجال المعنى و الواسطة البوحية ، و ربما عملية التنقل هذه هي من اسباب الامتاع و يتناسب حجم المتعة بالإبداع مع شكل و طبيعة ذلك النظام و التنقل فيه .
حينما يواجه القارئ نصّا ، تعمل مفرداته و تراكيبه بموادها و صيغها على نقل ذهن القارئ الى مجال معنوي خاص ، هذا النقل ليس توصيليا بل تعبيريا ، النقل التعبيري هذا له عناصر اسلوبية ، ليس من وظيفة القراءة التذوقيّة التعرّف على تلك العناصر ، و انما ذلك وظيفة النقد ، لذلك قلنا سابقا انّ جوهر النقد ليس التذوق و انما فهم اللغة و المراد بذلك هذا المعنى .  و لكل كتابة اسلوبها في البوح و التعبير و نقل القارئ الى مجال المعنى الذي يبدعه النص ، و لا يتوقف الامر الى هذا الحد ،  فبعد ارتحال القارئ الى ذلك المجال المعنوي يتكون المجال العام للنص ، من ثم تأتي براعة المؤلف في الابداعات الاسلوبية التعبيرية في صياغة الشكل المعنوي و الشعوري للنص ، بشكل كواكب مزينة في سماء النص ، او الوان في لوحة ، او كيانات واشياء و اشباح في فضاء واسع . هذا التصوّر في الحقيقة لا ينطبق الا على قصيدة النثر او الكتابة التي توظف لغة قصيدة النثر ، لذلك من العبث تطبيق هذه التصورات على الشعر التوصيلي مهما كانت جماليته .
هنا امامنا نص نموذجي لقصيدة النثر ( أبي قد مات ) للشاعر الفلسطيني الماهر عيسى أبو الراغب ، مليء بعناصر ابداعية  لتجلّي مظاهر انظمة البوح و التعبير و العناصر الاسلوبية للبوح و نقل القارئ الى مجالات المعنى الخاصة و بروز الاشكال الداخلية المبحرة و المتلألئة في سماء النص و فضائه . و من المفيد ايراد النص ثم  تلمّس تلك العناصر فيه :
(أبي قد مات)
أبي قد مات
مات بعد حفنة من القهر والألم والمنفى والغياب
أبي الذي مات في المنفى البعيد
حين حمل رغيف خبزه والقمح في خابية كسرها العابر
أبي كتب على صدره بعود السنابل الأصفر
نحن  الأرض
حين اطل برأسه من هناك على المدى البصري
لم ير إلا طين الأرض ووردة وزيتونة تنحني للعاشقين
تنادي  بعضها بعضاً
هناك حيث المدى كان أكثر مما يلزم
وكان الله يرتب الرسائل للقادم من الزمن ويؤرخ التاريخ
وظِلُ الرماد وفوضى العباد تزحف نحو المجهول
قبيلة من القهر أحاطت بنا
أبي قد مات
دق وتد الخيمة
أوقف عقارب الساعة وتخاصم مع الوقت
كان كل صباح يحكي لنا حكايات أول الطريق الطيني
قال لن يفهم احد سرنا
نحن تحت الأرض نحيا
علينا أن نهشم صنم الذات ونهش الألم والممات
الخيمة التي تتوسط الساحة الطينية مفتوحة من أربع جهات
أنا وريث المنفى
حين ولدت
كانت امرأة تحمل في جدائل شعرها
رسائل البلاد
قصت حبلي السري وأوثقته بالأرض
نادت على الرجل الواقف
صاحب  العمامة والدين
ينادي في أذني النداء الأكبر
أنا أحيا في فواصل سري العظيم
الأرض والسماء
أتتبع ما نثروا من ملح البلاد
أعنا   يا الله
لنقايض رسائلهم بما رتبت من رسائل اكتظاظ الحزن  فينا
متى موعد الفطام؟
هذه أوراق الحياة
بدأت تتثاءب وتعلن موعد النوم
هذا الصوت في بُـحةِ القولِ وقهرِ الداخل
هل كنا نصف الصدفة ونصف الحلم؟
والقراءة الأخيرة لدورة الحياة
ها نحن نترقب قلقلة الآلهة
وانغماس الأسطورة في السديم
سندفن المعنى والصورة في الطين الأول
نشكله طيراً يطير
ننادي  أيها الغراب الحكيم
يا سيد هذه الأرض الخراب
لنعود للبداية
هذه الأرض ليست أرضنا
ما أتينا إلا لنشارك في صلاة الوردة والزيتونة وطقوس العاشقين )

للغة التعبيرية توظيفات اسلوبية تتوزع بشكل عميق في جوانب كثير في النص ، فلأجل خلق سماء النص و جوّه العام يكون توظيف للعنوان و قاموس المفردات و التراكيب ، و تقريبا تتدخل في هذا الامر امور شعورية و غير شعورية تمثل طغيان اللغة و الكتابة و تعالي صوت البوح مهما اراد الشاعر حرف بوصلة النقل الاحساسي في النص ، لذلك و كمدخل قراءاتي جيد للجوهر العميق للغة النص  يتمظهر القاموس المفرداتي و التركيبي للنص و عنوانه بوّابة لذلك .
عنوان النص ( أبي قد مات ) وهو يشتمل على ثلاثة مجالات معنوية مهمّة ، الحميمية و الانتماء في كلمة ( أبي ) ، و الحزن و الأسى في كلمة ( قد مات ) ، و الاخبار الخطابي  بتقديم كلمة أبي ، المشيرة الى انّ المخاطب قد استفهم مسبقا عن حال الأب . اذن العنوان يرشد الى مجالات الحكاية و الحزن و الألفة ، ومع ان العنوان عادة ما يكون عاكسا لجوّ النص الا انّه لا بدّ من اجراء عملية مسح للنص لأجل الاطمئنان من ذلك البوح . وحينما نجد انّ هذه العبارة اقصد ( ابي قد مات ) هي اول عبارة في النص تنتهي مرحلة القلق القراءاتي و تنكشف سماء النص و نعلم اننا انتقلنا فعلا الى مجالات المعنى الخاصة بالنص ، وهذه وظيفة العناوين المركبة .
بقاموس المفردات نجد النص يعجّ بمفردات تلك العوالم المعنوي التي اشرنا اليها من الانتماء و الحميمية و الحزن و الاسى و الاخبار و التأكيد :-
1-    مفردات الحزن ( مات ،  القهر، الألم  ، المنفى ،  الغياب ، المنفى ،  الممات ، المنفى  ،  الحزن   ،  تتثاءب ،   بُـحةِ  / السديم  ،   الغراب ، الخراب )
2-    مفردات الانتماء (أبي ، رغيف ،  خبزه ، القمح  ، صدره  ، السنابل ، الأرض ، زيتونة ، للعاشقين ، قبيلة ، وتد ،  الخيمة ،   الذات  ،  الفطام  ، وريث ،  ولدت ،  امرأة ، البلاد ، )
3-    مفردات الاخبار  و التأكيد ( حمل ، كتب ، نحن  ، اطلّ ، تنادي ، يرتب ، دق ، أوثقته  ،  أذني ،  النداء )
و أيضا الألم و الانتماء و الاخبار في التراكيب الاسنادية  التعريفية في النص :-
1-    الألم (حفنة من القهر ،   المنفى البعيد ،  قبيلة من القهر ، اكتظاظ الحزن  ، سندفن المعنى ، الغراب الحكيم  )

2-    الانتماء (رغيف خبزه ، عود السنابل   ،  طين الأرض  ، وتد الخيمة  ، الطريق الطيني ،  صنم الذات ،  وريث المنفى ، جدائل شعرها ، رسائل البلاد ،  حبلي السري ، سري العظيم ، بُـحةِ القولِ ،  وقهرِ الداخل ، موعد الفطام ،  صلاة الوردة  )

3-    الاخبار (يرتب الرسائل ، أوراق الحياة ،  قراءة الأخيرة ، انغماس الأسطورة

و تتجلى تلك الحقول المعنوية في التراكيب الجميلة التامة الحاملة للمعاني الثلاث في الغالب في تركيب واحد فكانت كالنجوم تشعّ في سماء القصيدة التي رسمها الشاعر بقاموس مفرداته و مسنداته .
(أبي قد مات ، مات بعد حفنة من القهر والألم والمنفى والغياب ، أبي الذي مات في المنفى البعيد ، حين حمل رغيف خبزه والقمح في خابية كسرها العابر ، أبي كتب على صدره بعود السنابل الأصفر  ، نحن  الأرض ،  وكان الله يرتب الرسائل للقادم من الزمن ويؤرخ التاريخ ، وظِلُ الرماد وفوضى العباد تزحف نحو المجهول ، قبيلة من القهر أحاطت بنا ، أنا وريث المنفى ، قصت حبلي السري وأوثقته بالأرض ،  أنا أحيا في فواصل سري العظيم ، أتتبع ما نثروا من ملح البلاد  ، هذا الصوت في بُـحةِ القولِ وقهرِ الداخل ، ما أتينا إلا لنشارك في صلاة الوردة )
لو لاحظنا هذه التراكيب وهي المراكز البوحية في النصّ و اعمدة الخطاب و الرسالة فيه ، فانّا نلاحظ كل جملة فيها قد جمعت المعاني الثلاث (الألم و الانتماء و الاخبار ) . انّ هذا الشكل من الاتقان اللغوي حقّق تناغما فذّا في القصيدة ، و كانت تتجلّى اوجها مختلفة و مرايا تعكس وجه الألم و الحميمية و الإخبار ، تلك الحقول المعنوية التي نقلنا الشاعر اليها في صور شعرية عالية المستوى و عميقة حد الذهول .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى