ما بين الحقيقة والزيف.. د. رزان إبراهيم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
هو الزيف: ” يمر كما تمر حبة القمح في جوف طائر دون أن يهضمها” جورج أورويل
كيف ومتى يصبح القوي قادراً على فرض تصوره للعالم بالطريقة التي تجعل له الغلبة وتفرض على غيره الطاعة؟ أمر يستدعي تأملاً لمراكز قوى تعيد ترتيب التفاصيل حسبما تتفق وزاوية رؤيتها. ذاك ما تبرزه رواية أورويل الأشهر 1984 حين تعرض جملة من حيل لغوية بسيطة أو معقدة ولكنها في الحالتين خبيثة وتدخلنا في اللامعقول.
في عصر الأخ الكبير وفي زمن نظم ديكتاتورية بأجهزة حكومية شمولية حيث لا مكان للعواطف السامية, وحيث الخوف والكراهية, يكتب ونستون مذكراته وفي ذهنه التوجه بها إلى زمن آخر تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن فيه لأحد أن يمحو ما ينتجه الآخرون؛ فهو على صواب وهم على ضلال. وما كان عليه سوى الدفاع عن بديهيات بسيطة وواضحة فمن ذا الذي ينكر قوانين لا تتغير, من مثل أن الحجارة صلبة والماء سائل وأن مآل كل ما لا يرتكز عى الأرض هو السقوط. والحرية ببساطة تقضي تسليماً بأن اثنين واثنين يساويان أربعة. ولكن هل تملك أن تعلن ذلك في زمن الأخ الأكبر؟
الرواية تطلعنا على شبكة قوية تدعم مصالح الحكومة على حساب الأفراد والجماعة, وتنشغل بتنظيم كل وسيلة ممكنة في سبيل مواجهة كل من تسميه المتسلل العدو, أو المتآمر الساحر الشرير, عدو الشعب الخسيس الخائن, الساعي إلى تشويه صورة الحزب المشرقة؛ ففي عالم زاخر بأكاذيب تصبح معها الحرب هي السلام والحرية هي العبودية والجهل هو القوة, في عالم كهذا تصبح هذه مسميات المناضل بما سينطبق لاحقاً على ونستون حين ينكشف أمر كرهه لحزب يجعل منه المهرطق الأكبر.
وللحفاظ على مكتسبات الحزب, كان لا بد من الإبقاء على الأخ الكبير زعيماً وحامياً وقيّماً, وكان لا بد من أن تُحجب الحقيقة, ولكي تُحجب الحقيقة كان لا بد من اللعب بالماضي” فمن يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل” وهو ما يتم ببساطة من خلال سلسلة لا تنتهي من محاولات الانتصار على الذاكرة في إطار عملية تحديث للماضي بما يجعله متوافقاً والحاضر, ليصبح التاريخ مجرد لوح يتم تنظيفه لإعادة النقش عليه بما تستلزمه مصلحة الحزب. لذلك لا غضاضة لو صدّق العامة أن الحزب هو أول من اخترع الطائرة في وقت يذكر فيه ونستون الطائرات منذ طفولته الأولى. أمر يمكن أن ينطلي على كثيرين يتذكرون آلاف التفاهات, ولكنهم كالنملة يرون الأشياء الصغيرة ويتعامون عن الكبيرة, ومن ثم يصبح بمقدورهم تصديق ما يدّعيه الحزب من أنه قام بتحسين أوضاع الناس. وهو ما تيسره لغة جديدة غايتها التضييق من آفاق التفكير في إطار معجم تُقلَّل فيه عدد الأفعال وتُدمَّر فيه الكلمات, كما السجلات والكتب والصور التي يتم إتلافها وإحراقها وتزييفها كما تُزيَّف وقائع الحياة.
حتى وإن لم يقنع العامة أو يصدقوا فإن رغبة في البقاء تقتضي قبولهم الحزب قدراً مقدراً لا يتغير مثله مثل السماء لا يجوز التمرد على سلطتها. لذلك يغدو الولاء والغباء بما يعنيانه من انعدام للتفكير هما السبيل للحياة في عالم من شأنه تصفية الأذكياء وكل من يرى ببصيرة نافذة. وإلا فلا يظنن أحد أن جريمة في الفكر يرتكبها ستمر بسلام؛ فعينا الأخ الأكبر تسهران ولا تنامان ترقبان من خلال قطع النقود والطوابع وأغلفة الكتب والإعلام والإعلانات وحتى علب السكاكر. وكل من يجلب على نفسه غضب الحزب كان يختفي ويُشطب اسمه من السجلات مع نكران حتى لفكرة وجوده أصلاً ويضيع كل مفتاح يكشف سر اختفائه.
لذلك جاءت النهاية مخيفة, بل وأشبه بتذوق طعم الموت قبل أن يجيء, وأشبه بحياة لا معنى لها؛ فحين تتكشف خيانة ونستون الفكرية- وفقاً لمعيار الحزب- نراه يردد مكرهاً كل ما يريدونه, بل ونرقبه وقد تغلغلت في نفسه هزيمة انصاع لها حين نفذوا إلى كيانه ونجحوا في تبديل مشاعره تجاه حبيبته ( جوليا)؛ ففي” غرفة التعذيب أو على متن سفينة تغرق, تغدو القضايا التي نحارب من أجلها طي النسيان دائماً”. فما إن يبدأ التعذيب حتى يتضخم الجسد, ” فالمرء لا يمكن أبدا ومهما كانت الأسباب أن يرغب في زيادة ألمه. فإزاء الألم لا يمكن للإنسان إلا أن يرغب في توقفه. فليس في العالم ما هو أسوأ من الألم الجسدي, وحيال الألم ليس هناك أبطال , ليس هناك أبطال”. لذلك يصرخ ونستون حين هددوه بما لا يمكن احتماله:” لا تفعلوا ذلك بي بل افعلوه بأي شخص آخر”.
عند هذا الحد ينتهي النضال ويقر ونستون بالأخ الكبير المعصوم عن الخطأ المتمتع بقدرة فذّة تُعزى إليها كل أسباب النجاح والسعادة في المجتمع. وهو إقرار مصحوب بلغة جديدة ( بياض السواد) بما تحمله من قدرة على الاعتقاد بان الأسود أبيض, خلافاً لما كان يعتقد من قبل, بما يتناسب ولغة تجعل وزارة السلام هي المعنية بشؤون الحرب, ووزارة الحقيقة هي المعنية بخلق الأكاذيب, ويكون من شأن وزارة الحب تعذيب الناس, أما وزارة الوفرة فهي المسؤولة عن تجويع الناس حتى الموت.
كل ما تقدّم يثبت أنه ما كان للسلطة أن تبقى إلى الأبد إلا عبر التوفيق بين المتناقضات, وهو ما ينطبق حرفياً على سلطة مركزية شرط بقائها مرتبط بسيطرتها على الحالة الفكرية السائدة في إطار ممارسات مدروسة ومخطط لها أقرب إلى الجنون منها إلى العقل. لذلك يوجه الحزب خطاباً للناس يدّعي فيه أنه لم يسع إلى السلطة إلا من اجل مصلحة الأغلبية, ولأجل جماهير ضعيفة هشة تتسم بالجبن ولا يمكنها احتمال مسؤولية الحرية أو مواجهة الحقيقة.
ننهي الرواية وفي النفس سؤال حول بشر يضحون بحرية يسلبهم إياها النظام مقابل الأمن والأمان. وهو سؤال كان تشومسكي قد رد عليه بالقول: ” هذه المسائل خاصة بالإيمان لا المعرفة, توجه آمالك بأن الناس قد ولدوا أحراراً, ولكنك إن طلبت مني دليلاً على ذلك لما أمكنني أن أعطيك إياه”. ليبقى في الذهن لحن أخير يفضي باستحالة أن تستمر حضارة عمادها الخوف والكراهية والقسوة والذل لأنها كما تختم الرواية ستكون خلواً من أي حيوية ومن ثم ستتفسخ وتنهار من داخلها.