متحف سرسق في حلّته الجديدة.. تحقيق حلم

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

محمد شرف

 

 ما من شك في أن متحف سرسق يختلف، الآن، عمّا كان عليه قبل العام 2008. بقي مقفلاً منذ السنة المذكورة، ولم يتم افتتاحه إلاّ في 8 تشرين الأول الماضي، بعدما خضع لعملية «إعادة تأهيل» واسعة، أضفت عليه صفة المتحف الحديث، القائم في بناء تراثي، وذلك على غرار ما يحدث، عادة، في العديد من متاحف العالم، التي تمّ فيها التوفيق ما بين الصفة التراثية للبناء، والهندسة الداخلية الحديثة، المرفقة بتجهيزات تقنية مواكبة للتطورات الحاصلة، أكان في هوية العمل الفني أم في طريقة تقديمه للمتلقي.

هذا الإنجاز ما كان ليتمّ لولا مبادرة رئيس لجنة المتحف الراحل غسان تويني، بمعاونة أعضاء اللجنة، التي كلفت المهندسين جان ميشال فلموت وجاك أبو خالد للقيام بالمهمة. كما ما كان سيتم، من حيث الأساس، لولا نقولا سرسق، صاحب المجموعات الفنية الذي أهدى داره، بعد وفاته، إلى مدينة بيروت كي تتحوّل مُتحفاً للفن، إيماناً منه بضرورة وجود مكان من هذا النوع كي يُلبي حاجة الفنانين في لبنان إلى دعم مؤسسي. هذا، وقد استضاف المتحف معرضه الأول قبل أن تصير الدار مكاناً للعرض، في مبنى قصر الأونيسكو بمدينة بيروت، العام1957، تحت عنوان «أول متحف متخيّل في العالم»، حيث قدّم 664 لوحة منسوخة بالألوان ومؤطرة، نفّذها روّاد من آسيا وأوروبا وأميركا.

الفن الجديد

كان معرض الخريف من فعاليات متحف سرسق البارزة، وشكّل باكورة نشاطاته، حين افتتح المكان العام 1961، مشرّعاً أبوابه للأعمال المنتمية إلى تيارات الفن الجديد. كما اقتبس المتحف نموذجاً فرنسياً تمثّل بمنح جوائز تقديرية للأعمال التي اعتبرت أكثر توافقاً مع النواحي الإبداعية. سار المتحف على هذا التقليد دورياً، خلال فصل الخريف، فقدّم أعمالاً تعود إلى فنانين لبنانيين معروفين، ممن ساهموا في تطوير التجارب والأساليب الحداثية في الفن التشكيلي اللبناني المعاصر، أمثال شفيق عبود، إيفيت أشقر، إتيل عدنان، بول غيراغوسيان، سلوى روضة شقير، ميشال بصبوص، إيلي كنعان، عارف الريّس وعادل الصغير. إلى ذلك، نظّم المتحف معارض ضمت أعمالاً من مختلف أنحاء العالم، تضمّنت تنويعات من السجاد الشرقي، ونتاجاّ من الفن السوري المعاصر، والفن البلجيكي المعاصر بدوره، ومائيات بريطانية من القرن العشرين.

أقفل المتحف أبوابه منذ العام 2008، كي يخضع لعملية ترميم وتوسعة طاولت أجزاء رئيسية فيه. هذه الفترة الطويلة من الإقفال لم تذهب سدى، إذ لإن المشروع أفضى إلى إضافة أربعة طوابق تحت الأرض، وزادت مساحة ساحات العرض خمس مرات عما كانت عليه في السابق، ما أتاح تأمين صالات عرض إضافية خُصص بعضها للمعارض المؤقتة، إضافة إلى أوديتوريوم يتسع لـ168 مقعداً، ومكتبة متخصصة بالأبحاث ذات العلاقة بالفنون، وأمكنة للتخزين، ومحترف للترميم، إلى ما هنالك من تجهيزات تصبّ في خدمة الوظيفة المتطورة لمتاحف من هذا النوع.

حاجات ثقافية

في يوم الافتتاح، أي 8 تشرين الأول، والأيام التي تلته، تدفق الزوار بأعداد كبيرة، قالت لنا موريل نبيل قهوجي، مسؤولة الاتصالات في المتحف، وأضافت: لم نكن نتوقع هذا العدد الكبير من الزائرين، الذين لم يكن جلّهم من النخبة العارفة بأمور الثقافة والفن، بل جاءت عائلات بكاملها وأفراد من أصحاب الاهتمامات المختلفة. هذا الأمر، إن دلّ هذا على شيء، فهو يشير إلى حاجات الناس الثقافية، غير المتوافرة بكثرة في بلدنا، وسعيهم للتعرف إلى أماكن قادرة على تقديم موجوداتها بشكل لائق. يُضاف إلى ذلك أن الدخول إلى المتحف مجاني، على خلاف المتاحف العالمية، وبعض المعالم الأثرية في وطننا، علماً أن الأمر متروك للزائر في حال شاء أن يتبرّع بمبلغ معين، من أجل المساهمة في تغطية النفقات التي تتطلبها مهمة الحفاظ على الموجودات الفنية، وتنظيم المعارض، وتصميم البرامج والنشاطات التثقيفية لمختلف الأعمار.

هنا، يمكننا أن نلاحظ أيضاً، أن وجود متحف سرسق، من حيث الأساس، يُعتبر ضرورة في بلد يفتقر إلى متحف مخصص للفن التشكيلي. هذه المسألة، التي طال الحديث عنها في أكثر من مناسبة، وصارت مطلباً محورياً لفناني الجيلين القديم والجديد، ما زالت في إطار الحلم والتمني، ولم تلقَ آذاناً صاغية في وطن ينشغل حاكموه من سياسيين وزعماء، غير المرضى عنهم بالجملة، بأمور بعيدة عن هموم الناس الأساسية الملّحة (مشكلة الزبالة هي خير مثال)، فكيف بك بمتحف للفن التشكيلي، قد لا يفيد إنشاؤه هذا الزعيم أو ذاك، ولا يضيف شيئاً إلى رصيده الشعبي أو ثروته.

من ناحية أخرى، وفي عودة إلى ما قالته لنا موريل قهوجي، سوف يكون أحد أهداف المتحف، من الآن وصاعداً، محاولة إنشاء علاقة مع الجمهور على اختلاف فئاته، من خلال إغناء النشاطات المقبلة بمرافق متنوعة، كي ترضي مختلف الأذواق. ثمّة معرض، في الوقت الحالي، تحت عنوان: «نظرات على بيروت»، من تنظيم سيلفيا عجميان، يضمّ أكثر من مئتي عمل من مجموعات خاصة قلّما عُرضت من قبل، وهي ترصد التطور التاريخي للمدينة، كما تظهر التحولات العمرانية والاجتماعية في بيروت على مدى 160 عاماً، ومعرض آخر يحمل عنوان «تصوير الهوية» يضمّ مجموعة مختارة من «بطاقات العمل»، وصور الاستوديوهات مأخوذة من مجموعة فؤاد دباس للصور. هذا، في حين أن الطابقين العلويين يضمّان نتاج الفن اللبناني الحديث من أواخر القرن التاسع عشر إلى مطلع الألفية الثانية، وهي تشكّل المجموعة الدائمة الخاصة بالمتحف، التي كان اقتناها أو مُنحت له بعد معارض أقيمت فيه. علاوة على ذلك، ينظم المتحف، خلال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني، جولات في المتحف وندوات وورش عمل وبرنامجاً لأفلام من صناعة مخرجين لبنانيين، وسواها من نشاطات تصب جميعها في خدمة أهداف المتحف المذكورة على غلاف دليل البرامج، والتي حدثتنا عنها موريل قهوجي: نشر المعرفة المتعلّقة بالممارسات الفنية في المنطقة، واستطلاع الأعمال التي تعكس لحظتنا الراهنة، إضافة إلى دعم إنتاج الفنون المحلية، وبث الوعي في أوساط جمهور متنوّع وتحفيزه بأساليب جديدة وغير متوقعة.

يبقى أن نشير، أن الفترة التي أقفل فيها المتحف أبوابه، وحتى قبلها بقليل، كانت شهدت تطورات معينة في الفن التشكيلي اللبناني، ناتجة من حوادث اجتماعية وحتى سياسية، بعضها عابر وبعضها الآخر مفصلي، انعكست نتاجاً فنياً تتراوح صفاته ومكانته، بحسب هذا الفنان أو ذاك ولذا، سيكون على إدارة المتحف أن تعمل على تعبئة هذا الفراغ الحاصل، وهي مهمة لا تغيب، كما نعتقد، عن ذهن المسؤولين والإداريين فيه، كما لا شك لدينا في أنهم سيعملون على معالجة هذا الأمر، بحسب ما تسمح به الظروف والإمكانات.

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى