محمد جحا.. ذاكرة المكان الفلسطيني

محمد شرف
لو نظرنا، في شكل شمولي، إلى العالم الذي نعيش فيه، ومن وجهة نظر أو زاوية وجودية ومكانية، لوجدنا أننا موزعون، عملياً، بين مكانين: الداخل والخارج، وليس من مكان ثالث يمكن أن يخربط هذه الثنائية، إلاً إذا اعتبرنا أن في إمكان الإنسان أن يعيش في اللامكان، ضمن حيّز افتراضي. لا يفلت من هذه الافتراضية إلاّ من يقضي حياته في سجن محكم الإغلاق، أو مَن يهوى التشرّد ويفضّل أن تكون السماء سقفه الدائم، وفي الحالتين ثمة استثناء لا يُردّ إلاّ في حالات خاصة، وربما غير طبيعية.
إشكالية العلاقة بين الإنسان والمكان ليست بغريبة على الشعب الفلسطيني، الذي مُورست بحقه، منذ أمد بعيد، سياسات الهدم والتهجير القسري؛ فهو يعيش على قلق منذ عقود كثيرة، في ظل خسارته لجزء كبير من أرضه ومساكنه، ويجهد الآن من أجل استرداد بعض ما خسره، أو الحفاظ على ما بقي له منها على أقل تقدير. شاء الفنان محمد جحا تسليط الضوء على هذه الإشكالية المعاصرة، التي لا تلتصق حكراً بالشعب الفلسطيني، لكنه، من دون شك، من أكثر الشعوب التي عانت من هذه المسألة. من خلال معرضه، المقام لدى غاليري «آرت سبايس»، تحت عنوان «داخل X خارج»، أراد الفنان أن يطرح أفكاراً عدة حول ماهية العلاقة المذكورة بين الإنسان والمكان، متسائلاً إذا ما كان للمكان ذاكرة، وإذا كان في إمكاننا اصطحابه معنا لو قُدر لنا أن نغادره إلى مطارح أخرى؟..
يقول محمد جحا إن «البيت هو الملاذ الآمن الذي نلجأ إليه ليحنو علينا، ويحافظ على أسرارنا، ويجمع تناقضاتنا في حيّز ضيّق، ويستأنس بوجودنا مثلما نستأنس به، ويشعر بدفء أنفاسنا في عوالمه اللامتناهية». هذه الفكرة ليست بجديدة في مدلولها العام، لكن محاولة الفنان عكس هذه الهواجس تشكيلياً تتخذ بعداً مختلفاً. لا يحاول محمد جحا، من خلال أعماله المعروضة أمامنا، أن يضفي على الموضوع طابعاً ثمثيلياً يُسمّي الأشياء بأسمائها، ويشير إلى مدلولاتها الواقعية من دون مواربة. كما أنه، من ناحية أخرى، لا يغوص في متاهات تجريدية تضع المتلقي أمام جهود شخصيّة، متفاوتة ما بين الأفراد، من أجل تأويل المنتج ووضعه على سكة الاستيعاب الكلاسيكي للعمل الفني. شاء الفنان الجمع بين الحالتين، مضمّنا أعماله شخصيات ووجوهاً ورموزاً، وأشكالاً لا تعلن تماماً عن هويتها، ربما كانت مرتبطة على نحو ملغّز مع الموقف الشعوري، أو هي صادرة عما يمكن أن تفرزه اللحظة المعيشة من تفاعلات، متناغمة أو متناقضة، خلال العمل على اللوحة.
في ما يختص بلغته التشكيلية، لن يكون المشاهد العارف في حاجة إلى جهد كبير كي يلمس آثار التعبيرية الحديثة في أعمال الفنان. كان محمد جحا، المولود في قطاع غزّة والذي يعيش ويعمل حالياً في إيطاليا، قد شارك سابقاً في إقامة ورشة عمل في عمان بالأردن، تحت إشراف الفنان مروان قصاب باشي، المعروف بعلاقته الوثيقة بالتعبيرية الألمانية الحديثة. هذا التعاون القديم نسبياً مع مروان (كما يسمّي نفسه فنياً)، مضافاً إلى الإقامة في الغرب الأوروبي العامر بتيارات الحداثة المختلفة، ساعدا في تكوين شخصيّة محمد جحا الفنية التي لا يمكن إدراج مفاعيلها تحت لواء تيار محدد فني محدد في شكل نهائي، ناهيك بأن هذه المهمة لم تعد واجبة في زمننا الحاضر. في كل الأحوال يمكننا أن نلمس الحرفية التي تعاطى الفنان على أساسها، أكان في بناء لوحته، أم في علاقته باللون، أو من خلال سعيه إلى صياغة اللوحة وتحديد عناصرها عبر تقنيته الخاصة.
على أن الإسهام الأبرز للفنان، إضافة إلى الناحية التشكيلية، وفي ما يتعلّق بالفكرة والموضوع، يتمثّل في تطرقه إلى حالة آنية تتعلّق بمعاناة الشعب الفلسطيني، وتسليطه الضوء، عبر أعماله، على «محاولات طمس الهويّة وتبديل ملامح الجغرافيا، ومحو معالمها التاريخية واليومية من الصورة والذاكرة الحية التي تتعاقبها الأجيال»، ومحاولة الاحتلال «خلق فجوة كبيرة بين الإنسان ومسكنه الأول، حيث البيوت تموت بغياب قاطنيها»، على ما يقول محمد جحا.
(السفير)