معرض سمر مغربل.. عمارة الحنين

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أحمد بزون
المصدر: السفير
تبحث النحاتة سمر مغربل دائماً عن أفكار جديدة على السيراميك، كأنْ تجسد أحداث السيارات المفخخة، أو تمديدات البيوت، أو سوى ذلك من أفكار قد لا تخطر إلا في بالها. فنحن في معارضها لا بد وأن نفتتن بأفكارها، بالإضافة إلى حرفتها في النحت بالسيراميك، أو في تجسيد أشكال بواسطته.
وهي تطرح في معرضها الجديد الذي افتتح أمس الأول في «غاليري أجيال» فكرة جديدة، تحت عنوان «من دون آثار»، تجسد من خلالها استنكارها لما يجري من استهتار لمعالم المدينة القديمة، وهدم لبيوت بيروت التاريخية، تلك التي عايشت مراحل تاريخية تعود لعهد العثمانيين والاحتلال الفرنسي، امتداداً إلى ما بعد الاستقلال، وقد أتت الحرب الأهلية اللبنانية على عدد كبير منها، فزال ما زال وما بقي رأيناه طللاً يستعير البكاء من شعراء الجاهلية.
إذاً، نحن في الصالة نرى الفنانة وقد وضعت مجسمات لـ15 بناءً لا يتجاوز أكبر قياس فيها 43 سنتيمتراً، صفتها بشكل دائري، خلفها مجسمات تمثل الأبنية الحديثة والأبراج الشاهقة، وهي على شكل علب تستطيل عالياً، بلونها الأسود. وعلى المُشاهد أن ينتبه إلى ذلك التناقض بين أبنية مغربل المضيئة بألوانها الفاتحة، وتلك التي تشبه ظلالاً مظلمة. وبالتالي يفهم ما تقصده الفنانة من اعتراض على نمط الأبنية الحديثة الغريبة عن تاريخنا وهويتنا، وتلك المطبوعة بروحنا وأفكارنا وذاكرتنا التي لا يجوز أن تتعرض للبتر.
صحيح أن المعرض يحمل فكرة، حملها عدد من المصورين الفوتوغرافيين الذين صوروا تلك الأبنية التراثية البيروتية قبل أن تجرفها أمواج الأبراج، بل تلك الأبنية المصنفة تراثية والتي بلغت وقاحة التجار التفنن في سحب حظر هدمها من الدوائر المختصة بتزوير لواقعها، في سبيل مزيد من الأرباح، ضاربين عرض الحائط مسألة التراث وكل ما يمت إلى ثقافتنا وحضارة معمارنا. وصحيح أن عدداً كبيراً من الرسامين ساهموا في نقل أبنية مماثلة واشتغلوا على تجسيد الفكرة نفسها التي أرادت مغربل تجسيدها، وكان آخرها معرض أقامه الرسام الإنكليزي توم يونغ منذ أقل من ثلاثة شهور، في «البيت الزهري» التراثي نفسه الذي جسدته مغربل في أحد أعمال معرضها هذا، صوّر فيه بالألوان عدداً من البيوت البيروتية القديمة… غير أن فضل الفنانة في معرضها هذا، بالإضافة إلى أنها تضم صوتها إلى أصوات زملائها، في استخدامها مادة أكثر قدرة على تجسيد الأبنية تلك، وأكثر كفاءة في تمثيل الأبعاد الثلاثة أو الأربعة لها. وهي رفيقة السيراميك، التي تتعامل معه كعجينة طيّعة، تتحكم بماهيته، وتُخضعه لإرادتها وذوقها، وتتفنن في «طبخه». وهنا وإن اشتغلت عماراتها بمهنية عالية، وكانت واقعية بامتياز، فالإبداع أرادته أن يكون في بناء الفكرة لا في الخيار الفني البحت.
تبني مغربل عمارتها بطبقة رقيقة نسبياً، وتحاول أن تكون دقيقة في تجسيد كل التفاصيل، همّها أن تطابق الواقع، وتكون أمينة في نقله، لتقدم مجسمات للأبنية كما هي، بكل ما فيها من آثار وملامح، بينها ما هو نصف مهدم، أو ما بقي منه الهيكل فقط. لذا كان على الفنانة أن تنتبه لكل مظاهر تلك الأبنية، لا سيما التفاصيل المعمارية التراثية، من قناطر وعقود وأساليب صنع النوافذ والأبواب. وكان عليها أن تلوّن أحياناً، بل حتى أنها تطبع الصور نفسها الملصقة عليها حتى الآن، لا سيما صور لجمال عبد الناصر، وصورة لصائب سلام. وفي المناسبة، فإن الفنانة لم تتقصد تجسيم بيوت الزعماء أو القصور المعروفة، إنما بيوت العامة من الناس، من بينها بيت أهل الفنانة نفسها، وبيوت منتقاة بعشوائية من مناطق القنطاري والحمراء والوتوات والبسطة، وبيت لآل بركات، بالإضافة إلى تجسيم المنارة القديمة.
في تلوينها، تعمل الفنانة على أن تقدم أحياناً ما يقترب من لوحة الجدار، فالآثار التي تركها الدهر على جدران الأبنية ألوان تحرص على أن تبرزها بمهارة الرسامين أيضاً… وفي كل الأحوال، فإن الفنانة التي تشوي السيراميك على درجة حرارة عالية جداً، تحاول أن تلامس وجداننا بالحرارة نفسها، علّنا ننتبه إلى أن ذاكرتنا وتراثنا وهوية أرواحنا تنزلق أمام عيوننا وعقولنا، من دون أن نعير اهتماماً، أو يهتز لنا رمش.