“مهرجان بيروت الدولي”.. سينما التحولات العربية

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير

 

 

*نديم جرجورة

 

 

بات المهرجان في دورته الرابعة عشرة. متابعوه الدائمون يعرفون عطبه. لكنهم يُدركون أيضاً منافعه، وهي قليلة. أبرزها: اختيار عناوين تفضي مشاهدتها إلى متع متفرّقة. تتزامن الدورة الجديدة هذه مع عيد الأضحى. يُعتَقَد أن هناك إمكانية لاستقطاب عدد من المُشاهدين أكبر من ذاك الذي اعتاده المهرجان سنوياً. يُعتَقَد أن بعض أبرز الأفلام الأجنبية المختارة، تلك المعروضة في “بانوراما” مثلاً، قادرة على جذب مُشاهدين، لا شكّ في أن بينهم من سيتابع النتاج السينمائي العربي. لكن تقنيات العصر باتت تتيح للجميع إمكانية مشاهدة كل جديد، من دون الذهاب إلى صالة سينمائية، ومن دون انتظار “صدور” هذا الفيلم أو ذاك على أشرطة “دي. في. دي.”.

المسابقة الرسمية حكرٌ على الأفلام المختارة من دول الشرق الأوسط فقط. أربعة أفلام طويلة وسبعة وثائقية. رقم متواضع جداً، قياساً على المهرجانات الدولية المُقامة في مدن عربية. ليست المسألة مرتبطة بالمال فقط. العلاقات العامة قائمة بين إدارة “مهرجان بيروت الدولي للسينما” ومعنيين بالمهرجانات والتوزيع. هناك ما يحول دون الحصول على أفضل النتاج وأحسنه. مع هذا، يحاول المهرجان تأكيد حضوره عاماً تلو آخر، في عدد من صالات المجمّع السينمائي “أبراج” في فرن الشباك. يحاول أن يكون حاضراً في المشهد اللبناني والدولي.

الأفلام التي اختيرت للتنافس على جوائز عديدة في مسابقتي الشرق الأوسط للأفلام الروائية الطويلة والوثائقية المتنوّعة المضامين والأنماط. قصص مجبولة بهمّ فردي وسط تداعيات مرحلة، أو تحوّلات قاسية. الغرائبيّ في المناخ العام يعكس وقائع العيش على حافة الخراب الذاتي والروحي، كما في “بستاردو” (2013) للتونسي نجيب بلقاضي (“السفير”، 5 حزيران 2014). العجز الجنسي والخيانة الزوجية وذكورية الأنا أمور طاغية في المجتمعات الشرقية، ومُسبِّبة لقهر وشكّ وأسئلة معلقة، كما في “البرهان” (2013) للجزائري عمور حكار. واقع الاحتلال ومشاكل العيش في ظلّه محاولة لقراءة معنى الحس الإنساني البسيط عبر قصة حب بين مراهق وزرافة، تنفتح على أشكال الحياة والبؤس والموت، كما في “زرافاضة” (2013) للفلسطيني راني مصالحة. الوحدة والعزلة والحبّ والصداقة مجتمعة في علاقة مختار وحوريا، الناجيين الوحيدين في قرية تحتضر وسط طبيعة خلاّبة وقاسية، كما في “الشتاء الأخير” (2013) للكوردي سالم سلافاتي.

هذه نماذج. المواضيع متداولة. إيجاد فسحة للسخرية على واقع عنيف (زرافاضة) يُقابله غرقٌ في سوريالية اللقطة وقسوة الحياة وتفكّك المجتمع (بستاردو). الحب حاضرٌ في الأفلام الأربعة، وإن عولج بتنويعات بصرية وفنية مختلفة. الوحدة أيضاً، والصداقة والخراب الإنساني والسعي إلى منفذ. التخبّط والوجع والتمزّق الذاتي. أمور تُعاش يومياً، ومواضيع يُبنى عليها فنياً ودرامياً وجمالياً. يُمكن القول إن الوثائقيات المختارة لا تقلّ أهمية، كمواضيع، عن هذه. هناك شيء عفن في العالم، وسينمائيون شباب عرب يلاحقون بقايا الجمال الهاوي في حفرة العدم. المصرية فاتن البنداري (مواليد العام 1985) تكتشف بعينيها وعدسة كاميرتها ما لم يعد موجوداً في الإسكندرية. تختار شخصية شاب عائد إلى مدينته، فلا يعثر عليها. المباني الجميلة مندثرة. هذا يعني أن مرحلة بأسرها تندثر، وسلوكاً حياتياً وثقافياً واجتماعياً أيضاً. في “إسكندرية.. كعب داير” (2014)، تقول البنداري شيئاً من نهايات مُسرعة في إخفاء جمال ذاوٍ، ومن بدايات لا تليق بتاريخ مدينة وتطوّرها، ولا بحداثة يُفترض بها ألاّ تعاند الواقع والآنيّ والاختلاف الخلاّق. “مدرسة أبي” (2014) للإيراني حسن صلحجو صورة لكيفية مواجهة العنف بالاختلاف أيضاً. تحويل منزل إلى منفذ للسينما، يعني أن هناك شيئاً صالحاً خارج عفن العالم وقذارته. هذان العفن والقذارة حاضران في “العيش مع لفياثان” (2013) للتركية سيرين باهار ديرميال. البداية مع رغبة سلطة في تدمير حديقة. التفاعلات تذهب إلى ما هو أبعد وأعمق. حالة عامة مبنية على انهيار العلاقة بين أناس وسلطة قامعة. تحويل الأزمة إلى ضحك، يُشبه ما فعله سوريون كثيرون في أعوام العنف الدموي الحاصل في بلدهم. “سوريا الداخل” (2013) لتامر العوام انعكاس للمعنى الكامن في العلاقة الشخصية الحيّة بين السوري ويومياته. الإعلام العربي والغربي يُركّز على الدم والدمع والخراب. هنا، شبابٌ يريدون قول واقع مختلف، أو يصنعون واقعاً مختلفاً. يستلّون حقائق يُراد لها أن تختفي. الإعلام السوري الرسمي يمعن في تغييبها أيضاً.

الوثائقيات العربية عديدة. مكافحة القهر الاجتماعي لا تختلف عن مكافحة المرض. البحريني محمد جاسم يلتقط بعض المعاناة التي يعيشها مصابون بمرض “هودجكين” في فيلم يحمل اسم المرض نفسه. العلاج الكيميائي. المصائب والمصاعب. الأفراد. نمط سينمائي يُريد اختراق بعض المحجوب، من خلال واقع. المصري محمد عصام ينبش ما يعتبره “مجهولاً” في بلده. “بورتريه حسن الشرق” قصة فنان معروف في العالم، وغير معروف في مصر. عالم فن وعزلة وعلاقات ومصداقية لا تنتهي مع الذات. فن منطلق من بساطة المحليّ وجمالياته، إلى مشهد دولي عام.

“شلاط تونس” (2013) لكوثر بن هنية (“السفير”، 31 آذار 2014) مزيج الوثائقي والروائي. المخرجة منغمسة بالمفردات الفنية الجميلة للوثائقي، ومتشبّعة بمتخيّل بصري لا يخرج من واقعيته القاسية. القصة الحقيقية (شاب يعتدي على نساء سافرات بسكين) تتحوّل معها إلى مرآة مجتمع يعاني ثقافة تقليدية ذكورية، على الرغم من براعته في تخطي عقبات اجتماعية عديدة. مجتمع ضربته “ثورة شعبية سلمية”، تماماً كما ضربه قمع سلطة وفسادها.

التنويع الجمالي مرافق لتنويع درامي وإنساني. مختارات تقدم نماذج من اشتغالات سينمائية عربية، في ظلّ تحوّلات عديدة تعيشها المجتمعات العربية حالياً. نماذج تقول وترسم وتنفعل وتبوح، لأنها راضية على كونها مرايا شفّافة، يحاول أصحابها جعلها أكثر شفافية وصدقاً.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى