موسيقى من فضة السكون

الجسرة الثقافية الالكترونية
سوزان علي
صنع دمية من عظام الخيم الموحلة. مكان عينيها أثبت رصاصتين. رصاصة كادت تقتلني، وأخرى كانت أذكى فقتلت صورتي على الجدار. أعقص شعرها صوب تلك الجهات، حيث الألفة تعصر العنب بقدميها، والصبية الذين سرقوا الدراجة لم يعودوا حتى الآن.
أصنع طائرة ورقية من إيماءة مجهولة سافرت أول الشتاء، وبدلا من أن تبكي سألت عن الشمس في تلك البلاد القصية. يقولون إنها لا تطلع إلا قليلا، وإن الثلج هناك يلعب مع الأطفال ويقدم لهم شوكولا ساخنة. ألفُّ خيوط الطائرة بوداعات الحقول وهي تلفظ روائحها الأخيرة.
الطائرة في الغيمة، أرميها كمن يفتح قفص عصفور، الغيمة تأكل الايماءة، والروح تبحث عن الله.
أصنع عربة من صرير الأبواب الخشبية. عندما خلعت ظلّها محاولة اللحاق بأصحابها بلا جدوى، أطلي جسدها باللون الأبيض وأضع مكان العجلات شاهدات قبور. لم تملك الحرب وقتاً كي تسميها. تركت الاسم والتاريخ والندبات لزهور البراري. أدخل والعربة عزلة الرماد، أنادي على الأرواح بينما تعيد العربة الهدوء إلى النوافذ والقبلة إلى السرير.
أصنع عرساً قروياً مزدحماً بالزغاريد والدبكات، من دعسات دبابة عند الفجر، من زفير الجنود قبل الموت. في جيب كل جندي صورة لحبيبة تنتظره، تركها شاردة تحت ضوء القمر، تفكر أحياناً أن تبيع أساورها كي يعود، وأحيانا كثيرة تتوجس وتفكر أن تلقي بنفسها من على سطح البيت. أزين الساحات بالنسيان، وأمد صور الحبيبات حبالاً بين الأشجار، وأطلق تنهيدة مدويّة.
«فلنبدأ الرقص أيها الانتظار، وليغب العالم هنا وراء هذا الصخب».
أصنع موسيقى من فضة السكون في الزنزانة ليلا، من هلع الغفوة على أهداب الحراس، من دمع السياط على ظهر السجين.
ما اسمك؟
لا اسم لي، أعطوني رقماً وقالوا لي أن أنسى اسمي.
سأربت على كتفيّ هذا القلق كي يغفو، ليزوره في المنام كل ما قالته جدتي لي في ما مضى، عن عين الله التي تطفو على سطح البحيرات، الطفل الذي يبكي في القمر، والعشبة التي انخفضت كي يمر الرحيق.
أصنع لعبة غميضة ميتة للقناصة، أختبئ بين القمح، في حضن أمي، وراء الصخور المتراكمة على طريق المدرسة، داخل محل الحلوى، وعندما تراني سأعد للعشرة من جديد لتختبئ، لكن أين ستختبئ؟ ربما لن أجدها، أو لن أستطيع اللحاق بها، القناصة لا تجيد اللعب أبدا.
أصنع وحدة تليق بالحرب، لا قطط تجثو في الممرات، تلعق أقدامنا تحت الأرائك، لا غبار على سطح الراديو يعلو وينخفض مع الموسيقى، لا ساعات معطلة في الأدراج المعطلة، لا طلاء أظافر يموت لونه أمام عينيه، ولا ظلال حادة للظهيرة تكسر المعنى بوحشية، وحدة أخرى تعتني بقهوتها صباحاً، تتفقد ثيابها المتسخة، تصلح جرس البيت، تحفظ أرقام هواتف أصدقائها عن ظهر قلب، كما تحفظ الحرب وجوه موتاها لون عيونهم وبشرتهم وآخر طلقة من الأمنيات.
أصنع أحمر شفاه من خيالاتنا الكرزية، ونحن ننظر من شقوق أبوابنا إلى الغياب، سألون به فم الحرب عندما تفكر بخطة وأرض جديدة، ستذوق طعمنا فوقه، وتتخيل عائلة دافئة وأحفادا يرمون ضحكاتهم في حضنها… أو حقل تفاح يعبره الغرباء بحرية.
أصنع حصيرة من طقطقة كعب امرأة في طريقها للحب، أمدد ظهيرة الحرب فوقها، وأنتظر المطر.
أصنع وجهي في الصباح، أزم شفتي وأبلع دمع أمي. سيكون كل شيء على ما يرام، كصوت جارتي وهي تعلم طفلها أن ينطق «ماما»، كنظارة عجوز على الطاولة الخشبية، تشاهد نشرة الطقس، وأشياء لم تعد مهمة.
صنع خبراً عاجلا من حقائب سوداء خلف أبوابكِ سوريا، تذكر الكنبة بالسفينة، والنوم بالمحطات، والحلم بالقفص.
هل حقيبتك جاهزة؟
منذ أربع سنوات وأنا أركنها هنا… لكني أنسى دائما أن أضع جواز سفري، أو كما يقولون أشيائي الضرورية.
المصدر: السفير