«وردة عيسى» للفلسطيني انور الخطيب: مشاهد مؤلمة من الزمن العربي الثقيل

الجسرة الثقافية الالكترونية
*علي نسر
المصدر / القدس العربي
تعدّ رواية «وردة عيسى» للروائيّ والشاعر أنور الخطيب الصادرة عن مداد للنشر والتوزيع، مشهدًا من مشاهد البانوراما، إذ يسلّط عدسته التصويرية على المشهد العربي في سنواته الأربع الأخيرة، ليضعنا وجهًا لوجه أمام تفاصيل من الحرب الدائرة بعد انشطار المدينة/الوطن شطرين تتوسطهما دائرة دفن الموتى، التي استحالت ملاذًا وضربَ مواعيدَ عشقيةٍ في ظلّ غياب مقومات الحياة، حيث اللجوء إلى عالم الموت تنبثق منه الأنوار بعد اجتياح عتمة الحرب أوصال الوطن «…من نور دائرة الموت إلى عتمة الحرب» (ص117).
من مدفع إلى مجزرة، ومن ركام إلى تصدّع أحياء، وطرفا الحرب يدّعي كلّ منهما شرعية ما يقوم به من قتل وتدمير وتشويه. يحملنا الكاتب على متن مركبه الروائي ويجوب بنا بين أحياء وبيوت وشجر لم يبق لها سوى ذكرى المكان، فلا نعثر في رحلة القراءة إلا على أشلاء، ولا نسمع غير الأنين، ولا نشمّ سوى رائحة الدماء والأوساخ والجثث المتعفّنة، التي لم تزد الأحياء سوى ضراوة وتوحش… فقد عرف الكاتب عبر عديد من الرواة، كيف يصوّر لنا الواقع الشبيه بواقع الغابات، حيث انعدام الانسانية على أيدي المتقاتلين، فاستحالت المدينة مسرحًا لكائنات غير بشرية، جسّدها الخطيب بأسلوب رمزي، إذ أكثر ما وظّف في التصوير والوصف حاسة الشمّ إلى جانب الحواسّ الأخرى، وكلّنا يعي أن هذه الحاسة تكثر في ربوع المجتمع الحيواني.
عبر تقنية الزمن، يقدّم الكاتب صورة المشهد، إذ أنّ استرجاعًا خارجيًّا مداه أربع سنوات وسعته عشرات الصفحات، كان كفيلًا بنقل الصورة المأساوية، لتشكّل هذه المدة مرحلة فيصلية في تاريخ الوطن المذبوح على يد النظام الرسمي والإرهابيين، حسب وجهة نظر النص، إذ لم يُتركْ خيارٌ ثالثٌ قد يكون أكثر جدارة منهما، «زوّار عيسى نوعان، واحد فشل في فتح زنازين العصافير التي يعتقلها منذ عشرات السنين ويدّعي أنه حارس الحرية وتنوّع الكائنات، وواحد يصنع الأقفاص للعصافير ويدّعي أنه يحرّرها من قيودها الدنيوية، فالحرية في الحياة الأخرى فقط..» (ص112). وليرينا المشهد كيف أنّ الحرب لا تقاس بما تقتل وتدمّر أو تجرح، بقدر ما تقاس بما تزرع في النفوس من خوف وإحباط وانهزام نراه يسلخ الموت عن جدار مفهومه التعييني، ليصبح موتًا للقيم وللداخل والنفوس، طالما أن الواحد يحمل في داخله ضده.. «يمكنني رؤية الناس وهم يتناولون طعامهم بصمت، بينما عيونهم تجحظ برعب بشاشات التلفزيون، يحتسون قهوتهم بأصابع وشفاه مرتجفة، يذهبون إلى غرف نومهم تسبقهم الكوابيس المعدّة سلفًا… أكاد أرى ملامح الرجال وهم يعتذرون من زوجاتهم كل ليلة، ذبلت ذكورتهم كنظراتهم، والنساء فقدن الانجذاب إلى رجالهن، والمواليد صامتون، هناك من خاط أفواههم، والأشجار ترتجف من هواجس الحرائق، والدروب ترتعش كالسواقي المليئة بالثعابين..»( ص44).
وعلى الرغم من حصر الأحداث ضمن هذا المدى الاسترجاعي وانعكاسه على الزمن الراهن الذي يمثّله زمن السرد، إلا أنّ الكاتب يشير إلى خلاف شبه فردي يحصل يوميًّا في المقاهي، ملمّحًا عبره إلى أن المشهد الدموي هذا لم يكن وليد لحظاته، إنما يعود إلى ضغائن وأحقاد دفينة ومكبوتة لم تجد ما يفجّرها ويجعلها تعوم على سطح بحيرة الصراعات، فما أن سنحت لها الظروف والعوامل حتى كشّر أصحابها عن أنيابٍ ونواجذَ كانت متوارية تحت دثار التعايش والمحبة.. «وكنت أنت تخدم الفريقين من دون تمييز، تبتسم للجميع بقلب يطل على ساحل الحب، إلا أن التوتر تراكم وأصبح ورمًا على مشارف الانفجار، فوقعت مصادمة كبيرة بين الفريقين، استخدم فيها كل طرف الطاولات والكراسي والسكاكين والنراجيل والجمر والملاقط، لمستَ كميّة الحقد والكراهية والغضب بين الجهتين..» (ص31). فليست الحرب الدائرة سوى نتيجة منطقية لارهاصات عديدة ذكرها الكاتب في نصه عبر ما يعرف بمفارقة الاستباق، وإن لم يكن استباقا مباشرًا بقدر ما كان تلميحًا، لنصل إلى درجة عدم التفاجؤ بما يحصل حولنا من مذابح وقتل.
«كل ما حدث خلال الأربع سنوات الماضية كان منطقيًّا في أسبابه ومسبباته ونتائجه، ليس بمعنى القبول والرضا، وإنما بلغة الرياضيات…» (ص53).
وكأن الكاتب يطلق رؤية مفادها أنّ بلادًا لم يعمل حكّامها على زرع المواطنة في النفوس بقدر ما قاموا بقمع المخالفين، من دون دراسة ومعالجة، وكذلك لم يعمل العديد من رجال الدين على جعل الدين وسيلة وليس غاية، وسيلة غايتها الإنسان والأوطان، سيكون مصيرها الحرب، مشيرًا إلى أنّ الأديان واحدة في الجوهر وإن اختلفت الشعائر، محذّرًا من التعامل مع الإنسان من خلال اسمه وانتمائه المذهبي، كي لا تعمّ هذه المأساة أقطار هذه الأمة عمومًا، ما يؤدّي إلى تقزيم الوطن وتحويله إلى قطع ودويلات تتقاسمها جماعات وأفراد «الوطن قد انكمش ليصبح مذهبًا أو طائفة أو حزبًا أو قبيلة أو عشيرة…» (ص29)، مؤكّدًا أن الطرفين المتحاربين باسم الدين، القاتل منهم والمقتول إلى النار، وفي هذا التصور إشارة واضحة إلى أن الجهتين ظالمتان وليس فيهما من مظلوم سوى الوطن، ومن لم يغص في أوحال هذه الحرب، «لو قاتلت معكم أو معهم، سأكون ومن قتلني في النار..» (ص122).. لتصبح وردة الميتة هي العشيقة الجميلة، بعد ان استحال الجمال وكل ما كان ينبض حياة في عداد الأموات، وصار الزمن ثقيلًا بعد أن كان الفرح يجعله يمرّ سريعًا، وهذا ما يعرف بالزمن النفسي.. «لم تكن الطريق طويلة، لكن مشاهد الدمار أطالتها..» (ص137).
هذا المشهد المربك، لم ينعكس على الرواية مضمونًا وفكرة فحسب، إنّما نراه في الشكل والأسلوب أيضًا، وكأن قتامة المشهد أربكت الكاتب أو جعلته يتنصل من الصوت الأحادي في تبئير الحالة والمرحلة، ما جعل السرد تتجاذبه مجموعة من الرواة ظهرت من خلال الأصوات السردية الداخلية، بالإضافة إلى ظهورها عبر تنوّع الضمائر بين غائب ومتكلم ومخاطب.. ولم يظهر الإرباك عبر تعدد الرواة فقط، بل نراه في تحميل الشخصيات مفاهيم تفوق قدراتها التفكيرية، ما يشير إلى حلول الكاتب نفسه مستغلّا المناسبة ليقدّم رؤاه ووجهات نظره حول هذه القضية التي جاءت في بعض الأحيان القليلة من خارج إطار التقنيات السردية..
ويبقى أن نشير هنا، إلى أن «وردة عيسى» تعدّ سجلا لما جرى ويجري وسيجري من أحداث، في مدينة تشبه إحدى مدن الدول التي تشهد صراعًا، لكنها كأي مدينة عربية أخرى قابلة للانفجار طالما أنّ نفوسًا ضعيفة هي المسيطرة، وطالما أن رياحًا خارجية لم نعرف أو نستطع إقفال الشبابيك في وجهها…فهل كانت (وردة) الميتة/ الحية هي الوطن نفسه؟