أعمالها ترصد الانتهاكات الممنهجة للاحتلال الإسرائيلي: «محيطات الظلم» لفرح النابلسي: فلسطين من لندن

شادي لويس بطرس

يبدأ فيلم «كابوس غزة» بتنويه على شاشة العرض: «من فضلك، أغلق عينيك»، في دعوة للجمهور للدخول في حالة من تمثل الكابوس، والاستغراق في مخاوفه، ليبقى صوت كاتبة الفيلم ومنتجته، فرح النابلسي، فقط وهي تلقي نصها الدامي على خلفية موسيقية حزينة رغم عذوبتها. لكن ورغم الشاشة المظلمة، والعيون المغمضة، طوال مدة الفيلم، فإن المنتجة في معرض ردها على أسئلة الجمهور، بعد العرض، تؤكد أن مبتغاها هو أن تقتح العيون على المعاناة الفلسطينية.
عرضت النابلسي، الفلسطينية ، ثلاثة من أفلامها القصيرة، بعنوان «محيطات الظلم»، «كابوس غزة»، «اليوم، أخذوا ولدي»، مساء الأحد الماضي، في مسرح ماي فير، في وسط مدينة لندن، مسقط رأسها. وفيما يبدأ الفيلم الأول «محيطات الظلم»، كتمهيد للفيلمين اللاحقين، كما أكدت النابلسي نفسها، بسرد خبرة المنتجة الشخصية في مواجهة واقع المأساة الفلسطينية تحت الاحتلال، بعد زيارتها لوطنها الأم، فإن المشاهد الأولى التي تبدأ على الشواطئ البريطانية، لتقودنا إلى مشاهد لأفراد مغمورين في الماء حتى أعناقهم، على خلفية سلسلة من الصور الساكنة للمعاناة الفلسطينية وانتهاكات قوات الاحتلال، اعتمدت على ثيمة «الغرق»، لتتواصل مع رد فعل غريزي لدى الجميع، ومخاوف يمكن لأي شخص، بغض النظر عن خلفياته، أن يتفهمها.
تبين النابلسي مقصدها بقولها إن الحقائق والبيانات الموثقة عن المعاناة الفلسطينية متاحة للجميع، لكن إن كان من العصي على من لم يختبر الاحتلال أن يتفهم حقا ما يعنيه، فإن تمثل الغرق له أن يعكس ما تتضمنه خبرة الحياة تحت الاحتلال من شعور عميق بالعجز والخوف والهلع.
يعتمد فيلما «محيطات الظلم»، و»كابوس غزة»، على النص نصف الشعري للمنتجة، معتمدا على الحد الأدنى من البصري في الفيلم الأول، ويتخلى عن الصورة تماما في الفيلم الثاني. تؤكد النابلسي، على محورية المسموع في الفيلمين، بحقيقة أن النصين اللذين كتبتهما بعد الصدمة التي تعرضت لها بعد زيارتها للأراضي الفلسطينية، وحالة الاكتئاب التي مرت بها بعدها، لم يقصد بهما سوى محاولة للتعافي الذاتي، قبل أن يصبحا نصوصا لفيلميها. لكن النابلسي تعود لتقول في إطار تفاعلها مع الحضور بعد العرض، بأن إنتاجها الفني لا يتعلق بمجرد محاولة للتداوي الذاتي، بل برغبتها بالتواصل مع العالم، بلغة ومشاعر يفهمها.
وكما اعتمد الفيلمان الأولان على ثيمتين جامعتين هما الغرق والكابوس، فإن الفيلم الثالث الذي بدأت النابلسي فيه أكثر نضجا فنيا وتقنيا، بتخفيف اعتمادها على النص المقروء، وإفساح مجال أوسع للسرد السينمائي، والأدوات التوثيقية – الدرامية، فاعتمد على ثيمة الأمومة. فالمشاهد الأولى تبدأ بخالد، بسنواته العشر، ولهوه الطفولي، وتنتهى باعتقاله بواسطة قوات الاحتلال، واحتجازه في أحد المقرات العسكرية، تبدو فيها الأم، الذي لم يتوقف خالد عن مناداتها ظنا أنها قادره على إنقاذه، أعجز حتى من أن نسمع صوتها. يربط الفيلم في نهايته سرديته الدرامية بالواقع، باقتباسات من تقرير لمنظمة اليونسيف عن الانتهاكات المنهجية ضد الأطفال الفلسطينيين في مقرات الاحتجاز والسجون الإسرائيلية.
في نهاية العرض، وفي إطار تفاعلها مع مداخلات الجمهور، تكشف النابلسي، التي انتقلت من العمل في مجال البنوك الاستثمارية والأعمال إلى الإنتاج السينمائي، عن أن اختيارها الوسط الفني، لتتواصل مع العالم بخصوص القضية الفلسطينية كان معنيا بالحديث إلى «القلوب»، عبر الفن، ففيما تبدو الحقائق حول فلسطين معروفة وسهلا الوصول إليها لمن يرغب، فإن المعرفة وحدها غير كافية لاكتساب التضامن. تضيف المنتجة، أن أي مشروع استعماري يعتمد على منهج ثابت لتبرير جرائمه، ينزع صفة الإنسانية عن ضحاياه، وينفي وجودهم بالإساس، سواء ماديا أو معنويا، بوصمهم بصفات البربرية والإرهاب وغيرها، وبالتالي تنتفي إمكانية التعاطف معهم. لذا ترى النابلسي في الفن وسيطا فعالا لكسر وتحدي عمليات نزع الإنسانية عن الفلسطينيين، وماكينة ترويج الصور النمطية السلبية عنهم، لا بعرض حقائق معاناتهم وحدها، بل ربطها بمشاعر ونوازع بشرية جامعة، يستطيع للجميع أن يتوحدوا معها ومع معانيها.
وفيما بدت النابلسي في حديثها، واعية بأن إنتاجها السينمائي لايزال في حاجة لإثراء أدواته الفنية والتقنية، وتطويرها، في المستقبل، وكذلك مواردها الإنتاجية التي اعتمدت على التمويل الذاتي حتى الآن تحتاج لخطة تسويقية تسمح بتوسيعها، فإن النابلسي، بلكنتها اللندنية الطلقة المصاحبة لأفلامها الثلاثة، وخلفيتها المهنية الناجحة في عالم الأعمال، تبدو بريطانية جدا، كما هي أيضا فلسطينية جدا، وفـــي موقع يسمح لها بمخاطبة الآخر، بلغة يفهمها، وهي لغتها كذلك بالضرورة، متحدثة عن فلسطين بالنيابة عن نفسها، كفلسطينية أيضا،غير مكتفية بعــــرض فلسطين ومعاناة أهلها «في» لندن وغيرها من العواصم والمدن الغربية، بل «من» لندن أيضا وبلسانها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى