الترجمة… الجريمة التي لا تغتفر

أحمد ندا

ثمة إقرار بـ«أزمـــــة» تمر بها الترجــــمة في كل نقاش؛ شفاهي أو مكتوب، رسمي أو غير رســـــمي. سواء على مستوى الكم في عدد العناوين التي تنقل إلى العربية، أو على مستوى الكيف في جودة هذا القليل المنقول.
غير أن هذه النقاشات إذا ما خرجت إلى النور تصب تركيزها الأساس على فكرة الكم وقلة الترجمات إلى العربية، مقارنة إياها بألسنة أخرى تترجم أضعاف ما يترجم إلى لغة يتحدثها نصف مليار نسمة تقريبا.
لا يمكن للترجمة أن تتم بدون تعريض اللغة لعنف اللغة الأجنبية المترجَم عنها، خصوصا حين تتم الترجمة من لغة مغايرة في سياقاتها التأويلية ومعجمها وتركيبها اللساني والنحوي للغة الترجمة. هنا بالذات، يقول فالتر بنيامين إن مهمة المترجم هي أن يترك بذرة اللغة تنضج على مهل.
ليست الترجمة مسألة بسيطة أبدا، لأنها ترتبط بمناطق فكرية ووجودية وبممارسات جماعية وذاتية، لأنها هجرة للنصوص من لغة إلى أخرى، تماما كما هي هجرة للذوات والجماعات من مناطق وجودية وفكرية إلى مناطق أخرى مغايرة. وحين يهاجر النص يفقد لسانه.
لذلك يجد المترجم نفسه إزاء «خيانة» مقرونة بالعنف، المسؤولية على عاتقه ليست هينة أبدا، والمغامرة اللغوية والمعرفية والجمالية كبيرة، خاصة أمام النص الإبداعي، فهو ملزم إلى درجة كبيرة بالحفاظ على النص الأصلي قدر المستطاع، إلا بمقدار الخلاف بين لغتين –وهو كبير وكثير- وعليه فهو كقارئ أول للنصين، لابد أن يسأل نفسه، هل تكبدت من الخيانة حدها الأدنى؟
لم تعد الشكوى العربية من سوء ترجمات أو رداءتها أو طلاسمها غير المفهومة بالأمر الغريب على القارئ المتابع لعالم الترجمة، بل صار أمرا ثابتا، والشكوى فيه هي الغالبة على الحفاوة بالنص المترجم الجيد. زادت هذه الشكاوى بكثافة في الأعوام القليلة الماضية، بعد أن تحولت الترجمة إلى فعل مؤسسي تخصص له أموال طائلة من هيئات وجهات تفاخر بعدد العناوين التي أصدرتها، بغض النظر عن محتوى ما تقدمه وأمانتها في نقل هذه المعرفة.
ولعل من أوائل المرات التي علت فيها الأصوات «بعدم أمانة المترجم» كانت في بدايات العقد التاسع من القرن العشرين؛ ففي كتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، كتب المفكر المغربي عبد الله العروي، في مقدمته، نقدا لاذعا وحادا للغاية في المترجم الأول لكتابه محمد عيتاني، وقد التقط له عددا هائلا من الأخطاء التي تحول كتابه إلى شيء آخر لا يمكن فهم ما فيه، صدر الكتاب الأصلي للعروي عام 1967 والترجمة العربية الأولى بعدها بثلاث سنوات، كانت مفتتح مشروعه الفكري، وتحولت هذه الترجمة الأولى وقت صدورها إلى «كتاب تأسيسي» في مشروع العقل العربي. غير أن العروي عاد لترجمة كتابه بنفسه مرة أخرى ليصدر عام 1995، لتكون الافتتاحية، التي صدّر بها الكتاب «درسا قاسيا» للمترجمين، رغم السؤال الكبير الذي فرض نفسه بالضرورة «لماذا صمت العروي ربع قرن حتى تكلم؟».
يقول العروي في مقدمته: «إننا نحكم على تراجمة اليوم من هذه الزاوية؛ لا يتقنون العربية كأسلافهم، ولا يعرفون المتداول من لغات اليوم، بل لا يعودون مثل أسلافهم إلى المراجع التي تساعدهم على فهم مقاصد الكتاب المعاصرين. يبدو وكأن المترجم العربي المعاصر يتناول القلم باليمنى، والكتاب الذي يريد تعريبه باليسرى، مكتفيا بما في ذهنه من مفاهيم ومفردات. وإذا ما خانته الذاكرة عاد إلى المنهل أو المورد».
ثم يفصل أكثر في بعض مثالب الترجمة الأولى «هذه ألغاز لا أجد سبيلا إلى حلها مع أني كتبت الأصل، فكيف استطاع غيري أن يفهمها، أو ظن أنه فهمها، ثم أجاز لنفسه أن يناقش الأفكار التي توهمها فيها؟ لو كنت في مقعد ذلك المُناظر لقلت في نصي: إما أن الترجمة غير وفية ولا يحق لي أن أحمل الكاتب مسؤولية ما فيها، وإما أنها وفية ومن يكتب بهذا الأسلوب لا يستحق أن يُناظر. وإذا كان الأصل في مثل هذه الركاكة فلا داعي إلى تعريبه، وإذا لم يكن وجب على المترجم، احتراما لنفسه وللقارئ، أن لا يخرج إلا بنص خاضع لأبسط قواعد البيان العربي.
ما يقدمه العروي في كتابه لافت وخطير، خاصة أنه اختص حقول العلوم الإنسانية بنقده وتشريحه للوضع العام.. علت الأصوات أيضا بعد ترجمتين لكتاب الاستشراق الأشهر لإدوارد سعيد: الأولى تحولت على يد كمال أبو ديب إلى نوع من الطلاسم مستحيلة الفهم. والثانية على يد محمد عناني، وقد تجرأ وحذف مقاطع بدعوى أنها «تسيء إلى النبي محمد» مع أن ما حذفه كان استشهادات من الكوميديا الإلهية لدانتي إليجيري، ورغم أن الكوميديا الإلهية نفسها مترجمة إلى العربية قبل عقود.
وماذا عن الترجمات الإبداعية؟ في حال ترجمات الأدب، تبدو المشكلة أفدح في خيانتها للنصوص، فلا «ضرر» ملموس فيها، لكنها يمكن أن تنقل نصوصا شائهة لأعمال مهمة لتضيع أهميتها في لغة ركيكة واختيارات جمالية تقول الكثير عن مترجميها، إما لجهل أو لاختيارات أخلاقية، وكل الأمرين جريمة.
يقول جون لادميرال في تعريفه الأهم للترجمة «إننا لا نترجم علامات بعلامات أخرى، ولا حتى وحدات لسانية بوحدات لسانية أخرى، ولكننا بالأحرى نترجم وحدات كلامية أو خطابية». هذه المشقة التي تحدث عنها باستفاضة الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين في «مهمة المترجم»، مشقة إيجاد طريقة توافق بين اللغات. وفي ما يبدو أن «المشقة» العربية مضاعفة مع فوضى الترجمة التي تخلو معها أي رقابة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى