بلاغة قول الحقيقة في مجموعة قصص «وهم الوقت» للكويتي عبد العزيز سعد المطيري

الجسرة الثقافية الالكترونية

#سعاد العنزي

*يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مؤسس فلسفة التفكيك، عن قراءة النص الأدبي ما يلي:
« إننا لا نستطيع أن نبقى داخل النص، ولكن هذا لا يعني أن علينا أن نمارس بسذاجة، سوسيولوجية النص أو دراسته السيكولوجية أو السياسية أو سيرة المؤلف». (الكتابة والاختلاف، ص52).
ويؤكد إن الكتابة النقدية هي نابعة من البينية، بين الداخل والخارج، وهذا ما أوافق فيه دريدا بشدة، وهو ذاته ما يحكم دوما نظرتي للحياة بشكل عام ، والقراءات الأدبية، والنص الأدبي أيضا، في توسطه بين الشكل والموضوع، بين الذاتية والغنائية والأيديولوجية، بين الأعمال خاوية المرجعيات الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية، وبين الأعمال الأدبية طاغية الأدبية، والخالية من إشارات للخارج ومعالجات معرفية رصينة متعمقة بقراءة الواقع. وهذه حقيقة واحدة من إشكاليات الأدب العربي الذي بشكل عام يتطرف بأحد الأمرين، إما الخوض بالراهن السياسي والاجتماعي بعمق، وبمباشرة أيضا تحرمنا من جمالية الوعاء المقدم من خلاله العمل مع احتفاظه بالجمال المعرفي، وأعمال أخرى تقف على اليمين المتطرف، بتقديم لغة أدبية تترقرق شاعرية وعاطفة جياشة، لا تسندها فكرة عميقة تقف خلفها. وهو أمر عرضت له في قراءات سابقة في هذا المنبر الثقافي لبعض من هذه النماذج الإبداعية التي تقف على احدى الضفتين، وكأن النفور والنشاز هو ما كتب على انتاج هذا العصر، إلا بعض الاستثناءات الإبداعية الرائعة. رواية «في الهنا» لطالب الرفاعي نموذج للاحتفاء بالفني والجمالي الشكلي، بينما التمثيل الأيديولوجي يتضح في رواية «الذي لا يحب جمال عبد الناصر» لسليمان المعمري، إلا إنه هناك عدد من النصوص التي حافظت على الترابط بين هذين الطرفين، من مثل رواية «سفر الترحال» للكاتبة المصرية فاطمة العريض، التي تتدفق للعالم الأدبي بقوة جمالية معرفية وشكلية.
المجموعة القصصية للكاتب الكويتي الشاب عبد العزيز سعد المطيري، الذي قدم في مجموعته القصصية «وهم الوقت» وعيا واعدا بولادة كاتب يسير على الطريقة الغربية في نقد الواقع الاجتماعي والسياسي منطلقا من الراهن العربي والسياق العربي شكلا ومضمونا. أقول الغربية لأن أفكار الكاتب النظرية هي أفكار غربية فلسفية لاقت شهرة في الحقبة الأخيرة في الوطن العربي، ولم تعد إكسيرا غامضا، لكثرة تداولها بالفترة الأخيرة، من مثل: فكرة السلطة والمعرفة لميشيل فوكو، وفكرة القسوة باعتبارها مرادفا للوعي عند جاك دريدا، والمثقف العضوي لأنطونيو غرامشي، التي وظفها بقصة «مهرجون». فبمجموعة صغيرة لا تتجاوز 72 صفحة، مؤلفة من ست قصص: (مخاض، مهرجون، المساحة الفارغة، جمهورية الباميا، بوابات الجنون، وهم الوقت) يلخص الكاتب وجع الوطن العربي أو ما يسميه من باب السخرية المرة «الوهن العربي»، المتألفة منه بعض المتون الحكائية لقصص المجموعة، والمثقلة كاهل كاتبها بالهموم.
من حيث الترتيب البنيوي لبنية المجموعة القصصية، كان المؤلف موفقا بترتيبه البنيوي للقصص، إذ أن القصص الست تبدأ بقصة أولى معنونة»بمخاض»، تتحدث عن حالة ولادة طفل يعيش الظلمة في رحم أمه، ويمر بكثير من التساؤلات الغريبة والغامضة ، يأتيه صوت يتهمه الطفل بالقسوة، فيرد عليه الصوت إن «الحقيقة دوما قاسية» (ص:7) يخرج بها الطفل للحياة وعالم من النور مخالف لظلمته السابقة، ولكنه يدفعه للانخراط في نحيب طويل، يبدأ بولادته وشقاء الحياة المتوالية، وهو فيه إشارة لفكرة فرويد حول الولادة وحالة القلق من انفصال الطفل عن أمه .
تتناوب القصص بين مواضيع حياتية متعددة تركز على قضية الوعي، ورؤى متعددة للحياة، مليئة بالإحباط واليأس والاكتشافات القاسية، تنتهي بقصة «وهم الوقت» الحاملة لنفس عنوان المجموعة لتنتهي بحالة شيخوخة، وهو ما يقابل فكرة ميلاد طفولة في القصة الأولى موضوعاتيا، ، فنهاية أول قصة «خروجه نحو عالمه الجديد» (ص، 13) تقابلها نهاية القصة الأخيرة بصورة الكهل الباحث عن الخلاص من الحياة: « وجهه الحزين يتأمل محيطه؛ ممرضة تشابه أخريات تخرج من الباب، شمس افتراضية، أصوات عصافير افتراضية، غرفة بيضاء». (ص: 70) فالمجموعة مرتبة بشكل يقارب بنية الحياة، ولادة، حياة، ونهاية بالموت، أو في انتظاره.
من النظرات المهمة في القصص، كانت في قصة «مهرجون» حيث يقف بها على حوار بين مثقفين الأول سيكوباتي، والمرأة تنظر للحياة بنظرة المثقف العضوي الصادق المنتمي للجماعة، يقابلها ويناقشها بحدة المثقف السيكوباتي، المتأزم بواقعه وماضيه المخدوش بخيانة امرأة، كانت لحظة قاسية في تكوين نظرته للحياة، ولتكون عنونة قصة المهرج التي ذكرها في القصة، وبوجهة نظر السارد، تحول الجميع لمهرجين فاقدين دورهم العضوي في الحياة. لذا يعلن بقسوة كما أعلنها آرتو عن مسرح القسوة، أن: «هذا العالم المفرط بالبشاعة لا يستحق كتاباتنا الصادقة». (ص: 19) قسوة الشخصية هي منطلقة من فكرة دريدا أن «القسوة هي الوعي». فالمرور بأحداث مؤسفة وحزينة بالحياة يخلق وعيا بالحياة تصبح القسوة هي الثيمة المسيطرة عليه.
القصة الأهم في المجموعة، بوجهة نظري، هي قصة «جمهورية الباميا» الرمزية التي يقصد بها الوطن العربي الخليج خاصة والكويت على وجه التحديد، فهو يتقاطع مع الأحداث العامة للوطن العربي، وينطلق من خصوصية للحالة الكويتية بالفترة الماضية، والقلاقل السياسية الحاصلة فيها، واصفا الكويتيين بـ»شعب الباميا». القصة بساردين: خارجي واصف للمشهد العام، وسارد داخلي كاتب المذكرات الشيخ المسن، بوصفه رمزا للتاريخ، فذاكرة كبار السن هي تاريخا شخصيا، يكتبه السارد الداخلي، بقوله: «إلى من يهمه الأمر (وهنا أعني جيلا قادما قد يسخر مما أكتبه أو لن يفهمه على الأطلاق)، لا أعرف لماذا هذا الشعور بالحاجة إلى تأريخ ما يحدث على أرض الوطن) « (ص:35) يصف هذا الشعب المكون من صيادين، ورحالة وفلاحين) بأنهم أغبى شعوب المعمورة، وهذه العبارة وإن أتت على شكل ملاحظة نقدية لسلوكيات هذا الشعب، إلا إنها لا تخلو من رؤية متطرفة وأيديولوجية، تنبثق من رؤية المثقف للشعب بشكل عام.
وينتقد بعدها السارد/ الشيخ علماء ومثقفي جمهورية الباميا بقوله: (وقد اختلف العلماء (والعلماء هنا أقصد كتاب أعمدة خاوية من قيم المعرفة حرفيا وأحيانا من الأحرف إذا لم يشرف عليها محررون وافدون من الغرب الأوسط) حجب شعب الباميا من المعلومات القيمة).
يشير هنا السارد لدور العلماء في جمهورية الباميا الذين يقدمون خواء معرفيا يساهم بتتفيه الشعوب وتقديم ثقافة التجهيل بدلا من التثقيف، بحسب السارد هذا متأت من رغبة السلطة بتهميش وعي الشعوب للاستفادة من الجهل والسطحية وضمان استمرار الحكم، وهذه رؤية مزامنة لما يطرح بالسياسة المحلية الكويتية، بالأوساط الثقافية المعتدلة والمعارضة أيضا للسلطة، وحتى العربية.
ولكن السارد لا يكتفي بنقد السلطة بل يتوجه إلى شعب الباميا الذي يراه يشبه البامية «كان هذا الشعب سهل العصر مثل البامية المطبوخة، لين مع أي قوة تحتل بلده، يهتف فرحا لها، ثم إذا ما ضاق بها اكتفى بالتذمر» (ص: 37)
القصة مليئة بكثير من الإشارات التاريخية واللقطات الصادقة في كثير منها للشعب الكويتي، لا تخاطب الجيل الحالي، بل تقوم بحفظ هذه الذاكرة لأجيال المستقبل، كرسائل تكتب وتحفظ بزجاجة وتلقى في البحر، ولكن السارد الشيخ بوصفه رمزا للتاريخ يعنف، من قبل الشرطة التي تعاقبه للوقوف على شاطئ البحر وترسله للسجن من دون محاكمة. المجموعة حقيقة بليغة في فن الجرأة وشجاعة القول، مفتقرة إلى الخيط السردي الذي يشد عددا أكبر من القراء، لتقريريتها في مواضع كثيرة، وافتقارها إلى تنويع في عناصر السرد وتقنياته، وتكثيفه، في مواضع عديدة، يميل المؤلف إلى الدخول في تفاصيل عديدة تبطئ السرد، رغم انها قصص قصيرة مفترض أن تكون ومضات، فقارئ القصص يشعر أنه أمام كتابة وحوارات فلسفية أكثر من كونها قصصا أدبية تنتمي لهذه الحقبة الزمنية، والخيط الفاصل بين الكتابة الفلسفية والأدبية رفيع جدا في هذه المجموعة.
#القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى