في زاويةِ غرفةٍ صغيرة ..ميساء دراغمة (فلسطين)

 

الجسرة الالكترونية الثقافية ـ خاص ـ

 

 

هناك في زاويةِ غرفةٍ صغيرةٍ هي كلّ ما أملك من كونٍ واسعٍ بات أضيق من أن يتسع لبؤسي

هناك في زاويةِ غرفةٍ صغيرةٍ أحاطني إعصارٌ من الأفكار التي أطاحت بي يمنةً و يسرى و بعد أن أوصلتني إلى أعالي البحار ألقت بي في قعر سابعِ أرض  .

هناك في زاويةِ غرفةٍ صغيرةٍ و على جبلٍ من الأوراق المبعثرةِ الهاربةِ من مصيرٍ محتومٍ كمصيري

انسرب من صمت وحدتي همسٌ ملائكيٌ بدا أوضح من ضجيج الأصوات التي عَلَت داخل رأسي

جاءت ملهمتي قبل أن تدقّ ساعةُ الصفرِ بثوانٍ معدوداتٍ لتوقف أناملها الصغيرة زمني و ساعة الزمن، تساءَلت بعينين فضوليتين:

ـ “هل تكتبين عن حياتك؟“.

ـ أجبتها بانزعاج: “أجل“.

ـ حدّقت بي بعينيها المستديرتين كمن يلقي تعويذةً سحريةً وقالت بلهفةٍ بريئة:

ـ “اكتبي عن حياتي“.

ـ ردّدت بيني و بين نفسي كأني أردد أنشودة الصباح “حياتك .. حياتك” .

ـ بدأ صوتي يعلو و يعلو “حياتك .. حياتك“.

ـ انتقل سحر فضولها إلى عينيّ المرهقتين: “و ما عساي أكتب عن حياتك؟“.

ـ أجابت ببساطةٍ طفولية: “اكتبي أنّي وُلدت في السعودية و عشتُ في الأردن ثم عدتُ إلى فلسطين لأعيش في بلدي طوباس“.

ـ شقّت كلماتها الطريق نحو أذنيّ فكانت طوق النجاةِ الذي أنقذني من دوامتي بعد أن تلفّظت شفتاها كلمة السر التي طال بحثي عنها.

ـ “و أنتِ أين تفضلين البقاء؟“.

ـ أجابتني قبل حتى أن يرفّ جفنها: “طوباس”، احتضنتها بفرحٍ و احتويتها بين ذراعيّ و قد وجدتُ كنزي الدفين في ذات الخمسة أعوام التي وضَعت يدها على ما عجزتُ أنا عن الوصول إليه خلال ستٍ و عشرينَ عاماً، ضممتها أكثر فأكثر حتى اختفت بين ضلوعي و صارت جزءاً مني، و عدتُ على متن قطار حياتي السريع المحمّل بحقائب الذكريات لأحطّ مع كلّ حقيبة على محطةٍ من محطات ماضٍ ملأ ماضيه الألم الممزوج بالأمل و الأحلام.

عدتُ لأركض كالريح في شارع حيّنا العتيق، و أستنشق عبير أزهار الربيع المنتشرة على حوافّ الطريق، عدتُ فراشةً ملونةً بألوان الطيف تنتقل بخفةٍ بين شقائق النعمان و تحطّ على أزهار لوز أرض أجدادي، تلك الأرض التي تربّى على خيرها من تربيتُ من خيرهم، و مضيتُ خائفةً مترددةً لأول يومٍ وطأت فيه قدماي ساحة مدرستي الأولى، تمشيّتُ بين صفوفها و جلستُ على أدراجها الخشبية التي لم تكبر بعد.

أخذتني قدماي إلى مدرستي التي أعلنتُ فيها ثورة مراهقتي و تمردتُ فيها على نفسي، خرجتُ من بوابتها الشامخة لأجد نفسي في شارعٍ شهِدت ذرّات ترابه على ولادة عشقي الأول الذي عشق بلاده فكان وفاؤه لها أقوى من إخلاصه لحبي فضحّى بأحلى سنين عمره ليفدي عينيها الكحيلتين، في نهاية الشارع وقفتُ على مفترق طرقٍ فسلكت الطريق المؤدي إلى جامعتي؛ جامعة الحصار و الانتصار؛ في مدينتي الثانية التي نمت بين ذراعيها في ليلٍ معتمٍ بالظلم مضيءٍ بقنابل الظالم، و بعيداً عن حضن أمي الأمين بحثت عن الأمان بين باقةٍ من زهرات الوطن، فكنا معاً أقوى من رشاشات الأعداء، و اجتزنا الحواجز الملغّمة بجند العدو لنصل لهدفنا و نتحصّن بسلاحٍ أكثر فتكاً من أسلحتهم المعدنية، و توقف القطار عند محطتي الأخيرة، و عدتُ إلى بيتي الذي رغم برودة جدرانه العالية إلّا أنّه لطالما منح قلبي الدفء، و رغم فضل السقف الذي أواني فقد كنتُ دائماً أحلم بالرحيل؛ الرحيل لأرضٍ لا يسكنها الخوف و لا يتربع على عرشها الوحدة، حلمتُ ببيتٍ أسمّيه بيتي و ألوّن جدرانه بضحكاتِ عائلةٍ صغيرةٍ سعيدةٍ حرمني القدر أن أحظى بها.

ترجّلتُ من عربة قطار حياتي بعد أن أنذرتني ضحكات ملاكي الصغير بالوصول إلى ملاذي الأخير، و صوتها الرقيق يصرخ في أذني بحدّة:

ـ “ميسااا .. بحبك .. بحبك”، نفضتُ غبار الذكريات من على أكتافي و نثرتُ عبق الماضي الجميل في زوايا غرفتي الصغيرة التي باتت الآن أكبر من أن يتسّع لها الكون بأسره.

هناك في زاويةِ مدينةٍ صغيرةٍ وجدتُ بيتي .. مدينتي .. وطني ..

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى