البدايات المجهولة لمسرح العرائس في مصر

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص- 

 

الأستاذ الدكتور سيد علي إسماعيل*

 

مقدمة

إذا نحينا جانباً الحديث عن وجود العروسة ضمن الآثار الفرعونية – وأيضاً الحديث عن عروض خيال الظل، أو الأراجوز – سنجد بعض الباحثين يقولون بأنمسرح العرائس في مصر بدأ عام 1958، عندما زارت فرقة (سانداريكا) الرومانية القاهرة، وكذلك زيارة وزير الثقافة التشيكوسلوفاكي لمصر، وحديثه مع وزير الثقافة – حينئذ – فتحي رضوان حول تكوين نواة لمسرح العرائس في مصر، حيث قدمت حكومة تشيكوسلوفاكيا  هدية من العرائس ترمز لتاريخ تطور فن العرائس في تشيكوسلوفاكيا. وبالفعل بدأ العمل في إقامة أول مسرح عربي للعرائس، تحت إشراف خبيرتين من جمهورية رومانيا الشعبية، هما: إيوانا كونستا نتينكو، ودورينا كونسيسكو ( 1).

وفي مقابل ذلك، يقول البعض: إن بداية مسرح العرائس في مصر، كانت مع ظهور أول عمل مسرحي عرائسي، وهو (الشاطر حسن) من تأليف الشاعر صلاح جاهين، وتمّ عرضه في 10 مارس 1959 على مسرح معهد الموسيقى العربية بالقاهرة” (2). وهناك فرق ثالث، يؤكد على أن البداية كانت مع افتتاح مسرح القاهرة للعرائس بالأزبكية عام 1963 (3 ).

وهذه الأقوال – رغم وجاهتها – الموثقة بالتاريخ، لم تستطع أن تأتي بأية محاولة قبل عام 1958. وهنا تأتي أهمية الحفريات البحثية في التاريخ!!

المستر هولدن

عندما تصديت للكتابة عن بداية ظهور مسرح العرائس في مصر – متجنباً الحديث عن الفراعنة وخيال الظل والأراجوز وصندوق الدنيا أو صندوق العجب – تفاجأت بوجود هذا المسرح في مصر منذ أواخر القرن التاسع عشرـ وتحديداً عام 1890، عندما قرأت في الصحف عن زيارة فرقة (المستر هولدن) الأميريكية مصر، وعرضها في القاهرة عروضاً للعرائس الخشبية بدار الأوبرا الخديوية؛ ولأن هذا اللون من الفن المسرحي كان جديداً وغير مألوف في مصر، فقد شاهده الخديوي توفيق بنفسه، ونقلت إلينا جريدة (القاهرة) هذا الخبر يوم 22/1/1890، قائلة تحت عنوان (الأوبرا الخديوية): ” شرّف الجناب العاليالخديوي المعظم مرسح الأوبرا لمشاهدة تمثيل المستر هولدن بالتماثيل الخشبية أول أمس”.

وربما يظن القارئ أن عبارة (التماثيل الخشبية)؛ تعني شيئاً آخر غير فن العرائس، أو مسرح العرائس بمفهومه الحديث!! وهذا الظن سيتلاشى تماماً أمام مقالة كبيرة، نشرتها مجلة (المقتطف) في سبتمبر 1890 – بعد عدة أشهر من وصول فرقة مستر هولدن –  تحت عنوان (الأشخاص الخشبية)، شرحت فيها شرحاً تفصيلياً أسلوب عروض الفرقة على خشبة المسرح؛ حيث إن المجلة متخصصة في الأمور العلمية والصناعية والأدبية أيضاً. ولأهمية هذه المقالة – التي تُعدّ كشفاً تاريخياً، وتوثيقاً تاريخياً لأول فرقة مسرحية عرائسية أميريكية تزور مصر–سنذكر أهم فقراتها، مع التعليق اليسير عليها:

تبدأ المقالة بهذه الفقرة: ” جاء العاصمة منذ بضعة أشهر رجل أميركي، أدهش الأبصار، وحيّر الأفكار! فإنه كان يرى الناس أشخاصاً من الخشب، تقوم وتقعد وتمشي وترقص وتتكلم وتغني، ويشاركها في أعمالها المختلفة عدد عديد من الحيوانات بين دب وثور وحمار وكلب وهرّ وما أشبه. وكان يريهم عظام الأموات، تنفصل وتتصل، وتقوم وتقعد وتعمل غريب الأعمال كأنها حيّة عاقلة”.

وهذه الفقرة، تدل على أن هذا اللون من الفنون المسرحية، غير معروف – مصرياً أو عربياً – ويتم عرضه لأول مرة في مصر، لا سيما وأن مجلة (المقتطف) هي التي تقول بذلك! حيث إنها من أهم وأكبر المجلات في العالم العربي في ذلك الوقت، وكانت دائماً تنقل إلى قرائها أحدث الأخبار العلمية والفنية. وقد لاحظت المجلة تعجب الجمهور الذي شاهد هذه العرائس الخشبية، فقالت في مقالتها:

” ولا بدّ من أن كثيرين حاولوا استطلاع أمر تلك الأشخاص، وكشف سرّها. وأكثر الذين حادثونا في هذا الموضوع، متفق على أنها مركبة من قطع خشبية تتحرك بواسطة الأسلاك. أما كونها مركبة من قطع خشبية فهذا يعترف به صاحبها. وإما كونها تتحرك بأسلاك مربوطة بها فأمره ظاهر؛ لأن الأسلاك تُرى عياناً وقلّ من لم ينتبه إليها من جميع الذين شاهدوها. فيبقى أمر تركيبها وتحريكها وفيهما سرُّ عملها البديع”. 

وقبل أن تشرح المجلة تركيب هذه العرائس، وطريقة تحريكها، وصفت هيئتها وأشكالها البشرية، قائلة: “ولا شبهة في أن هذه التماثيل مهما كانت مادتها، ومهما كان تركيبها، قد مُثلت بها الهيئة البشرية أحسن تمثيل. فترى الرجل السمين، والضئيل، والطويل، والقصير، والمرأة الفتية، والعجوز، والجميلة، والشنيعة. وترى الأزياء بين الأوروبي، والصيني، والهندي، والياباني، بالغة مبلغ الاتقان. وكذا أشكال الحيوانات المختلفة، والأشجار، والمباني، والأدوات، والأمتعة. وحركات هؤلاء الناس، وهذه الحيوانات أشبه بحركات الناس والحيوانات الحقيقية. فالجبان يمشي متلفتّاً، والشجاع متبختراً، والغانية تتيه دلالاً، والعجوز تدلف؛ كأنها تجرُّ أثقالا،ً والثور ينطح بقرنيه، والدب يطفر على رجليه، ولا يظهر في ذلك كله شيء من التكلّف”.

بعد ذلك تطرقت المجلة في مقالتها إلى أصوات العرائس، وأسلوب تمثيلها، وديكور العرض العرائسي، وألوانه، والإضاءة .. إلخ عناصر العرض، قائلة في ذلك: “وأغرب من ذلك أصواتها، فلكل منها صوت خاص به حتى القطاط؛ فإنها تموء كما تموء القطاط الحقيقية. وجد الغرابة في أصوات المغنين، ولا سيما حينما تمتزج برطانة البرابرة، وطمطمانّية الزنوج. فعلى من أراد تفسيرها أن يفسر كل ذلك. أما اختلاف الأستار، وخرير الماء، ودوران الآلهات، وما يتصل بذلك من المناظر السمويّة البديعة، فما يسهل على كل أحد أن يعرف حقيقتهُ، ولو راعهُ منظرهُ أكثر من كل ما تقدم. فالأستار حقيقية، وبعضها شفاف ملوّن بألوان مختلفة، فيُزاح بعضها من أمام بعض، ويُحكّم النور الساطع عليها على أساليب شتى. فيخال الرائي أن الجو الذي أمامه يتغير لونه، كما يتغير في الظلمة والنور والفجر والشفق. ولا بدّ من أن العمال قد مهروا في تحريك الأستار، وتوقيع النور عليها مهارةفائفة. والماء حقيقي على ما يظهر، ولا داعي للاشتباه في ذلك على أن الممثلين قد يمثلون جريان الماء بصورة متصلة، تتحرك بسرعة ويصحبون حركتها بصوت كصوت خرير الماء،فيتوهم من يرى الصورة، ويسمع الصوت إن الماء يجري حقيقة. والآلهات أصنام حقيقية قائمة على دائرة، تدور بها على محورها حول تمثال آخر، ويكون بينها وبين المشاهدين أستار شفافة، تزاح واحداً بعد الآخر، ليتغير بها لون المنظر وإشراقه. ومركز الغرابة ليس في هذه المشاهد بل في تركيب الناس والحيوانات وحركاتها”.

وتصل المجلة في مقالتها إلى نقطة مهمة، وهي كيفية صناعة هذه العرائس وتركيبها! وفي ذلك تقول: “أما التركيب فكل شخص مركب من هيكل خشبي يشبه هيكل الإنسان، وهو قطع خشبية مثل العظام، مفاصلها لوالب معدنية مرنة، تمكنها من التحرك إلى كل الجهات، كما تتحرك الأعضاء الطبيعية. والغرابة في عمل هذا الهيكل ومضاهاة الهيكل البشري به في البناء والحركة. ويُقال إن الذين يصنعون هذه الهياكل من أكبر المصورين وصانعي التماثيل، ولذلك ترى مصنوعاتهم تحاكي الأشخاص الطبيعية شكلاً وقواماً وحركاتٍ. ويُلبس الهيكل ثياباً، ويوضع له وجه وشعر حتى يصير كالشخص الطبيعي”.

وتصل المقالة في شرحها إلى طريقة تحريك هذه العرائس، وتأتي إلينا بمفاجأة غير متوقعة! حيث إن المعروف أن العرائس يتم تحركيها بواسطة خيوط أو أسلاك من أعلى خشبة المسرح! أما المفاجأة فإن التحريك كان بأسلاك مربوطة بالعروسة من جانبي خشبة المسرح ومن أسفلها!! وفي ذلك تقول المجلة في مقالتها: “وتربط أعضاؤه بأسلاك دقيقة، ويُعلق بها، وتوصل هذه الأسلاك بسيور من الصمغ الهندي حتى إذا تُرك إلى نفسه يتدلّى مرتفعاً عن الأرض ثلاث أقدام. وتربط الأعضاء بأسلاك أخرى ممتدة إلى تحت الأرض، وبأسلاك جانبية بعضها إلى اليمين، وبعضها إلى اليسار. ويقف المحركون لها تحت أرض المرسح، وفي غرفة إلى اليمين، وغرفة إلى اليسار فيحركون الأعضاء حسبما يستدعي المقام”. 

وتختتم مجلة (المقتطف) مقالتها عن (العرائس الخشبية)، قائلة: “وهنا المهارة التي لا تُحَصّل إلا بالصبر والمزاولة. وكل ما في هذه الأشخاص من اتقان الصنعة، لا يحسبه الرائي شيئاً بالنسبة إلى حركاتها، ولا سيما لأنه يراها تتحرك حركات لم تكن منتظرة قبلاً. فإذا غنّى المغني منها وأجاد وأطرب الحضور واستعادوه، أحنى رأسه مسروراً، وأعاد الغناء ثانية وثالثة. وإذا رقصت الراقصة وسرّت الحضور بخفة حركاتها فاستعادوها، لبّت الطلب عن طيب نفس، إلى غير ذلك مما يطول شرحه ويشهد بمهارة الذين يحركونها. أما الكلام والغناء، فيقوم بهما إناس حقيقيون غير ظاهرين للعيان، فيظن الرائي إن الشخص الذي أمامه هو الذي يتكلم ويغني”.

أخوان براندي

بعد سبع سنوات من تمثيل فرقة هولدن في الأوبرا الخديوية – بوصفها أول فرقة مسرحية عرائسية أميريكية – جاءت فرقة أخوان براندي إلى القاهرةعام 1897، وقدمت فقرات فنية على مسرح حديقة الأزبكية. ومن الفقرات التي قدمتها هذه الفرقة: الأراجوز الميكانيكي، مع الرقص والطرب، وتمثيل بانتومايم بالإشارات، هذا بالإضافة إلى فقرات فنية للعرائس الخشبية، التي كانت تخبرنا بها الإعلانات الصحفية، ونعتتهاباسم (الفنتوش أو الفنطوش) – وهي كلمة إيطالية (Fantoccio) تعني العروسة الخشبية، أو المصنوعة من القماش، والتي لها شكل كالبشر (4) -واصفة عملها تارة بقولها: “والتماثيل تفتح أفواهها وتغلقها فيخال للناظر إليها أنها تتكلم” ( 5)، وتارة أخرى تقول: “وهيكل يرمي بأطرافه ورأسه إلى الأرض، ثم يعود فيتلقفها واحدة واحدة، ويركبها في أماكنها. كل ذلك تفعله هذه الأشخاص الخشبية بخفة ورشاقة لا مزيد عليها؛ كأنها تحس وتدرك وهي لا شعور لها ولا حياة فيها”( 6).

ومن الواضح أن فرقة أخوان براندي – مثل فرقة هولدن – كانت فرقة عرائسية في المقام الأول – رغم تقديمها لفقرات أخرى متنوعة، تتشابه مع فقرات السيرك –بدليل أن الصحف كانت تُعلن عنها من خلال فقراتها العرائسية الخشبية فقط، مثل جريدة (المؤيد)، التي نشرت يوم 19/10/1897، قائلة: “يعرض جوق أخوان براندي في تياترو حديقة الأزبكية من ألعابه الخيالية، التي يجريها بواسطة الصور الخشبية كل ليلة ما يدهش الألباب، ويسر الناظرين”. وأيضاً جريدة (المقطم)، التي قالت يوم 22/11/1897 عن جوق هولدن: ” يمثل جوق هولدن هذا المساء ألعابه الخشبية في (صولد جرس كلوب)، وقد خفض أسعار الدخول، وزاد على اللائحة ألعاباً جديدة ترغيباً للناس في زيادة الإقبال”.

ومن اللافت للنظر أن فرقتي مستر هولدن، وأخوان براندي أثّرتا تأثيراً قوياً في انتشار مسرح العرائس في مصر في هذه الفترة، ففي عام 1899، نشرت جريدة (مصر) خبراً، قالت فيه: ” تمثل الليلة في تياترو أبي خليل القبانيمساخيط خشبية على طريقة هولدن الشهيرة …” (7)، وهذا يعني أن عرائس مستر هولدن، أصبحت نموذجاً يُحتذى به في تقديم مسرح العرائس لبعض الفرق في هذا الزمن. ومن المحتمل أن هذا الخبر يخص بعض الهواة من المصريين أو العرب؛ حيث إن الصحف دائما ما كانت تنشر اسم الفرقة أو اسم صاحبها لو كان أجنبياً، مما يعني قوة احتمال أن هذا العرض يخص المصريين أو العرب!!

الجوق السيموغرافي

في عام 1900، زارت مصرثالث فرقة عرائسية – وربما كانت الأهم – حيث أعلنت عنها الصحف وتناولت أخبارها واصفة إياها بـ(الجوق الجديد السيموغرافي)!! وهذه الفرقة، كانت تُقدم مناظر سينيموتوجرافية – أي مناظر سينمائية – وفقرات الفنطوش، أي المساخيط الخشبية! وهذه الفرقة قدمت، أعمالها في تياترو السكاتنج رنج (8 ) بالأزبكية.

وأول خبر منشور عن هذه الفرقة، نشرته جريدة (المقطم) يوم 4/1/1900، قائلة: “ستعرض مساء غد وبعده أحسن مناظر عديدة سينيموتوجرافية بتياترو كازينو حلوان من الساعة 9 إلى الحادية عشرة. فنؤمل أن يكون الإقبال عليها عظيماً، على أن ما علمناه من اتقان هذا الفن، الذي جاء مطابقاً لما سمعناه عن هذا الجوق الجديد، الذي قدم مصر منذ بضعة أيام. وسيبتدئ بهذه الألعاب يوم الثلاثاء القادم بتياترو سكاتنج رنج، ويتخلل ألعاب السينيموتوجرافية الفنوطوش أيالمساخيط الخشبية وخلاف مناظر مدهشة”. وتابعت الجريدة نشاط هذه الفرقة، طوال وجودها في مصر، ونقلت إلينا تفاصيل ألعابها العرائسية الخشبية (9 ).

ففي يوم 11/1/1900، قالت جريدة (المقطم): “بدأ الجوق الجديد السيموغرافي في عرض مناظره الجميلة في تياترو سكاتنج رنج أول البارحة. ويلعب التماثيل الخشبية ألعاباً مدهشة، وهو يجري ألعاباً مدهشة جديدة مساء كل يوم من الساعة الخامسة إلى نصف الليل”. وفي يوم 15 يناير، قالت الجريدة: “ستعرض مساء اليوم حسب المعتاد ألعاب الفنطوش في تياترو سكاتنج رنج، ويتخللها مناظر سيموتوجرافية بديعة، تشهد لمدير الجوق بالمهارة والبراعة. وقد أقبل الناس عليه كثيراً في هذه العاصمة. وهم مسرورون من المناظر التي تمثل كل ليلة من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة التاسعة، وكل نصف ساعة تظهر ألعاب ومناظر جديدة، وكذلك من الساعة التاسعة إلى الثانية عشرة”. وأخيراً قالت جريدة (المقطم)، يوم 17 يناير 1900: “يعرض كل ليلة في مرسح سكاتنج رنج منذ الساعة التاسعة مساء إلى الساعة الثانية عشرة مناظر سيماتوغرافية جميلة، ويتخلل فصولها ألعاب الفنطوش المضحكة. وفى كل خميس من الساعة الرابعة ونصف إلى الساعة السابعة، يخصص المرسح بالحرم والأولاد”.

الجران جينيول

آخر فرقة عرائسية زارت مصر – استطعنا اكتشافها – كانت في عام 1929، عندما زارت فرقة الجران جينيول الفرنسية القاهرة، وقدمت عروضها على مسرح الكورسال. وقد قامت مجلة (مصر الحديثة المصورة) بعمل حوار مع مديرها المسيو جورج راباني. والحوار المنشور في المجلة، بدأ بهذا التعريف: “تُطلق كلمة جينيول الفرنسية على العرائس والألاعيب التي يحركها صاحبها المختبئ وراء ستار تسلية للأطفال الصغار التي نسميها نحن أراجوز” ( 10).

وهذا الوصف – ربما – يُقصد به (عرائس القفاز)! ولكنني غير مقتنع تمام الاقتناع بذلك؛ لأن في ثنايا الحوار المنشور، وجه مندوب المجلة سؤالاً مباشراً إلى مدير الفرقة، قائلا: لماذا سُمي هذا النوع من التمثيل باسم الجران جينيول؟ فأجاب المدير، قائلاً: “أتعرف أن كلمة (جينيول) معناها العرائس الصغيرة التي تحرك من وراء ستار. وما نحن في الحياة إلا عرائس كبيرة تحركنا يد خفية غير منظورة لا نعرف ما هي، لكنا نحس في قلوبنا وعواطفنا قسوتها ورقتها، إذن نحن ما زدنا في الحياة عن تلك العرائس. لذلك اطلق اسم (الجران جينيول) أو العرائس الكبيرة على هذا النوع من التمثيل الذي يمثل لك كل أطوار الحياة على حقيقتها ظاهرة واضحة. فهو يمثل لك في سرعة واختصار فاجعة من فواجع الجرائم التي تقرأ أخبارها في الصحف كل صباح ومساء. وعقبها مباشرة يقدم لك رواية هزلية تدخل في نفسك قسطاً وافراً من التسلية. وهي في هذه التسلية تمثل حادثاً مما يحدث يومياً في الأسر والعائلات. إذن الجران جينيول يمثل لك وجوه الحياة المتباينة فينزع عنها ذلك القناع الكثيف الذي يغطيها ويظهرها لك على صورتها الحقيقية في روعة وسرعة تحس معهما أنك في مسرح الحياة اليومية تشاهد حادثاً يقع لك شخصياً” ( 11).

وهذا الشرح المسهب به غموض – على الرغم من الإشارة إلى العرائس في العرض – حيث إن الشرح يتحدث عن عروض مسرحية بها فواجع ومآسٍ، وتُختتم بعرض كوميدي!! فهل هذه العروض – رغم ذكر العرائس فيها، أو اعتمادها على العرائس– تنتمي إلى مسرح العرائس، الذي يُقدم إلى الأطفال؟؟ والجدير بالذكر إنني قرأت في صحافة عام 1924، مجموعة مقالات نقدية عن عروض فرقة رمسيس ليوسف وهبي، والتي وصفتها الصحف بأنها تنتمي إلى (الجرانجينيول)، مثل مسرحيتي (عاصفة في بيت)، و(راسبوتين)(12 ). وهو نوع مسرحي، يقوم “على شخصيات وحوداث عنيفة تتخطى في الغالب حدود الحياة العادية إلى جو الخيال وما يحمل من ضخامة” ( 13).

فهل عروض فرقة جران جينيول المعتمدة على العرائس، لها علاقة بعروض يوسف وهبي المفجعة (الجرانجينيول)؟! ومما يزيد غموضهذا الأمر غموضاً، سؤال طرحه المحرر على مدير الفرقة، قائلاً: أكل ممثل يمكنه أن يُمثل أدوار الجران جينيول؟، فأجاب المدير قائلاً: 

“كلا! إن ممثلي مسرح الجران جينيول بباريس قد اختصوا بالقيام بهذه الأدوار وبالأخص أدوار الدرام الفظيعة التي لا يتقنها أي ممثل آخر خشية أن يختلط عليه الأمر بين الدرام المسرحي الكبير، وهذا الدرام الفظيع الذي تقوم فيه العينان واليدان وحركات الوجه بقسط وفير. وإن فرقة الجران جينيول بباريس التي نحن قسم منها ليس فيها إلا كل من مضت عليه عشر سنوات على الأقل في ممارسة هذا النوع من التمثيل. وصعوبة هذا النوع من التمثيل جعلت المنافسة فيه قليلة وإقدام الممثلين على الانضواء تحت علمه أقل. لذلك لا تجد في باريس كلها إلا فرقة واحدة للجران جينيول يقوم قسم منها بالتمثيل على مسرحنا الباريسي وقسم يقوم بهذه الرحلة القصيرة في الشرق الأدني” ( 14).

وبناء على ما سبق، يتضح لنا أن مسرح (الجران جينيول)، هو مسرح يستخدم العرائس في عروض مسرحية، يقوم بها ممثلون معينون، ويؤدون تمثيلاً معيناً باستخدام العينين والأيدي وحركات الوجه، كما جاء في الاقتباس السابق. وبناء على متابعتي لإعلانات هذه الفرقة في مصر، أستطيع القول: بأن العروض – رغم اعتمادها على العرائس، أو تحريك العرائس، أو التشبه بالعرائس – لم تكن تُقدم إلى الأطفال، بل كانت تُقدم للكبار، وذلك بناء على كثرة العروض المسرحية، وتنوع عناوينها، ومعاني ودلالات بعض هذه العناوين، التي لا تصلح للصغار!!

فمن خلال إعلانات جريدة (الأهرام) لعروض هذه الفرقة على مسرح الكورسال بالقاهرة – من يوم 23 يناير إلى 8 فبراير 1929 –نستطيع القول إن الفرقة قدمت المسرحيات الآتية: (فصل ثالث) تأليف فيدو، (قبلة في الليل) تأليف موريس ليفيل، (الدورة القصيرة) تأليف رابييه وجولو، (الوحيدة) تأليف هنري دي فيربوا، (المخلب) تأليف جان سارتينيه، (بعدك يا كباتن) تأليف برتون، (خطيئة الشباب) تأليف بيير فيبير، (سول هيامز) تأليف أندرية برناك، (عين بعين) تأليف رينيه بيرتون، (هل أنت الجديدة؟) تأليف سيرج فيبر، (الحقيقة الدامية) تأليف موريس ليفيل، (مانوش) تأليف هنري دي فيربوا، (اليزة المسكينة) تأليف مدلين جيتي، (الموت الكبير) لينورمان، (من الراعي إلى الراعية) تأليف ديودوبيه، (الميراث) تأليف إيف ميراند، (في التليفون) تأليف شارل فوليه وأندريه ديلورد، (خادمة صغيرة رزينة) تأليف تيموري وجان منوس(15 ).

خاتمة

هذه هي الاكتشافات الجديدة في تاريخ بدايات مسرح العرائس في مصر – وتحديداً في العصر الحديث – وهي إرهاصات لعروض أجنبية عرائسية زارت مصر في أعوام 1890، 1897، 1900، 1929 – حسب ما بين أيدينا من مراجع – وهذه الاكتشافات أو الحفريات، ربما تفتح آفاقاً جديدة أمام الباحثين والدارسين لاكتشافات أكثر، أو للتوسع في هذه الحفريات بتتبع نشاط هذه الفرق في الصحف الأجنبية، التي كانت تصدر في مصر، أو التي كانت تصدر في بلدانها! حيث إننا اعتمدنا فقط على الصحف الصادرة باللغة العربية في مصر، وهذا لا يمنع أن الصحف الأجنبية التي كانت تصدر في مصر، قامت بدورها؛ وربما بصورة أكثر توسعاً؛ بوصفها صحف أجنبية تقوم بتغطية عروض أجنبية.

 

 

الهوامش

 

قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان

( 1) – راجع: فوزي سليمان – مسرح العرائس تجربة جديدة مثيرة في بلادنا – مجلة (المجلة) – عدد 28 – أبريل 1959 – ص(57 – 59)

(2 ) – السابق – ص(61)

( 3) – مجلة (المسرح) – عدد 31 – يولية 1966 – ص(111، 112)

( 4) –هكذا أخبرتني الدكتورة وفاء رؤوف رئيسة قسم اللغة الإيطالية بكلية الآداب جامعة حلوان

( 5) –جريدة (المقطم) – 5/10/1897

( 6) –جريدة (المقطم) – 8/10/1897

(7) –جريدة (مصر) – 26/12/1899

(8 ) – هذا التياترو في الأصل كان محل لمدام ونتر، وكان يقع في أول شارع باب الجنينة البحري لحديقة الأزبكية، أمام محل (سكاتن رنك) لبيع العملات – محل صرافة – ولأن محل الصرافة كان الأشهر، اتخذ التياترو اسمه، وأصبح (تياترو السكاتنج رنج)، ثم تغير الاسم إلى (تياترو فيردي)، ثم أخذه الشيخ سلامة حجازي، وأطلق عليه اسم (دار التمثيل العربي) عام 1905.

( 9) – ينظر: جريدة (المقطم) 11/1/1900، 15/1/1900، 17/1/1900

( 10) – الجران جينيول في القاهرة – مجلة (مصر الحديثة المصور) – السنة الثانية – عدد 6 – 4/2/1929 – ص(379)

(11 ) –السابق

( 12) –ينظر: جريدة (الوطن) – 17/10/1924، مجلة (التمثيل) – 16/11/1924

( 13) –مجلة (التمثيل) – عدد 14 – 16/11/1924

(14 ) – السابق – ص(380)

( 15) – راجع: جريدة (الأهرام) 23/1/1929، 24/1/1929، 25/1/1929، 27/1/1929، 1/2/1929، 2/2/1929، 3/2/1929، 6/2/1929، 8/2/1929

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى