أمطار رمادية.. قصة جديدة للكاتب ناصر الريماوي

الجسرة الثقافية الالكترونية -خاص

*ناصر الريماوي

 

لأمطارهم على شراذم الأسطح الطينيه، الواطئة، المتناثرة حول أبراج الغمام، مذاق التبغ، ورائحة السجائر الملوثة بالسهر. لأمطارهم وهي تحفر الأرض، تحت أعمدة البيوت، دبيب النمل فوق أقواس النوافذ الموصدة، وصوت الجراد. تحت مظلّة القرميد ذات البطانة الرصاصية، المضادة للمطر، الواسعة، في الطابق العلوي، كان يصيح حانقا في وجه الأغلبية: كانوا أكثر من ذلك، كانوا سبعة تلاميذ على أقل تقدير. ثم مضى يرمق سقف الحافلة المدرسية في ذهول. رد أحدهم بهدوء: ربما عادوا للطوابق السفلية… كان بعضهم يغض الطرف، طواعية، ويتهم الغمام، ويخلط بين الناس في الأسفل عن حسن نية، أغلبهم غير ذلك، أغلبهم على عكس البقية… أجمعوا بأنهم كانوا صغارا، صعدوا سلالم الأقبية السفلية إلى حافة الرصيف المبتل، في الصباح، ثم بعد ذلك لمْ يرهم أحد…! لا أحد يثق بمطر مبتذل يسقط فجأة ليعلق في المزاريب، ربما ستخنقها الدهشة عندئذٍ، أو تفيض فتجرف كل شيء. بهذا علّق سائق الأجرة المهموم، بعد أن خذلته السيارة أسفل ذلك البرج. أتفق معك، للمرة الأولى…، فلا أحد يرتاح لأمطار رمادية تسبق الرعد بوقت طويل، كي تحرض الطين على أسطح المنازل الفقيرة، ثم تموت من غيظها في الطرقات. ردّت عليه السيدة من فضاء المقعد الخلفي، بعد أن باتت على يقين من عبث إلحاحها في الوصول. أعرفهم، وأعرف أمطارهم، وهي تحفر شيئا فشيئا، تحت أعمدة البيوت، والطرقات…عن عمد. هذا ما قاله السائق الآخر، خلف مقود الحافلة المدرسية، وكان غير بعيد عنهم، وهو يراها تغوص به في الوحل. ما قاله بعد ذلك ولم يسمعه أحد، كان الأقسى… لكنه الأهم.

*********

رغم جغرافيا المطر المعقّدة بيننا، إلا أنه يعلم… وربما هي أيضا. فغرف الأقبية منذ “نوفمبر” ستغدو كئيبة – كما قال – ومحض أوكار موحشة، لا تصلح للموسيقى، كل ما ينبعث منها، سيء وقميء، ولن تغدو مختلفه كثيرا عن بيوت الطين على الجانب الآخر، حيث تغيب الأرصفة، والتي غالبا ما تتخطاها الحافلة المدرسية رغم وضوح اللافت الارشادية بضرورة التوقف… استوقفه ما حدث قبل قليل، فتدارك وهو يشيّع في البعيد ما تبقى من سقف الحافلة: “غير أنهم كانوا أكثر حظاً لهذا اليوم بهذا التخطي”. في الطابق الخامس، العلوي، حيث يرشح القرميد بنغم مطري يتساقط موزونا فوق قلنسوة إمرأة مسيجة بالنوافذ، والدفء، تفور في قلق خفي، خلف زجاج مترف، داكن وسميك، تسأل: إلى أين يمضي هذا المطر يا ربي، وكيف ينتهي؟ تغمض عينيها في كسل بالغ، ثم تغيب في رشفة “كاوبتشينو” ساخنة و طويلة. فجأة، تشهق من بعيد في ذعر، تصيح بأقبية لا تراها: عليكم بأحدث “كونشيرتو” ماطر ل”هولاند”، أو “موزارت” … أليس بينكم من يدرك هذا؟! كان السيّل يواصل جرف سيارة أجرة متوقفة، أمام أقبية البيوت، ويزحف بها نحو مرآب البرج السفلي، السيدة في المقعد الخلفي كانت قد توقفت عن الالحاح، بينما كان السائق يحدّق فيها بعينين من زمرّد. **** في الضحى، تبدد كل شيء – المطر، الطين، ثاني اكسيد الكربون، سقف الحافلة، سيارة الأجرة – مخلفاً ثقلا ما في النفوس… في الطابق الأخير، كانت الحيرة ترمي بظلّ ثقيل، مما افقد الجميع روح الدعابة: “كيف للحافلة أن تتخطى اللافتة؟ ” المرأة في الطابق العلوي، أثقلتها مراهم البشرة، وظلّ الخادمة الأسيوية الثقيل، كلما سألتْها ولم تُجب : ” إلى أين يمضي كل هذا المطر؟” مذيع النشرة الإخبارية، ذلك الصباح، بدا مضطرباً، أثقلت لسانه كتلة البيانات الواردة، والمتضاربة، ليزلّ مرغما  على الهواء: ” لم تكن في السماء غمامة واحدة، ومع هذا فأمطارهم كانت تجرّ سيلا خلفها، وتختلط بالماء… فمن أين جاء كل ذلك المطر”؟ 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى