دراسة في قصيدة للشاعرة مريم مشتاوي

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

* عبد الله خزعل الخزاعي

كان من المفترض أن تكون لي وقفة مع ديوان مريم مشتاوي وسبر أغواره والتعرض لأمواج النور التي تغلف حبكته ولكن مشاغل الإنسان منعته من ذلك فرأيت أن تكون لي وقفة أمام ٌقصائده مفردةَ أحاول قدر المستطاع فكّ طلاسمها والعبور بقاربي عبر بحارها المتلاطمة الأمواج إلى ضفافها الآمنة.أرسمُ بريشتي ما أتخيله من صور كثيرة في عالم مريم مشتاوي.ولكن بعد اطلاعي على الديوان أقول: لغة الديوان لغةَ متينة سردها الشاعري تغلفه الصور البلاغية من تشبيه ومجاز واستعارة إضافة للعاطفة التي تستشعرها وأنت تقرأ الكلمات الحالمة.استطاعت الشاعرة عبر التحرر من قيد الوزن والقافية أن تستثمر خيالا في رسم  بانوراما جميلة من الحكايات والصور السسيمية التي تجعلك أمام قصائد ثرية في المعنى وقوية في التعبير وابتكار الصور الجديدة في عالم التشبيه والمجاز والاستعارة….

العربية ومريم مشتاوي صنوان لا يفترقان ،فعشق الشاعرة للغة الضاد متأصل فيها تتنفس إبداعها وجمالها .

الحب عند مريم يختلف عن كل الأنواع فالحب عندها لوحة سماوية أبطالها ضيوفٌ في الأرض سرعان ما ينتقلون إلى الأعالي حيث مرابع العاشقين في جنان خضراء.

سأقف عند قصيدة: لمَ أحبك؟ محاولاً أولاً: معرفة شخصية الشاعرة من خلال شعرها فإن الشعر مرآة للشاعر وإن كان حالماً ،فالشعر هو مجموعة انفعالات نفسية تحيط به ويحاول أن يجسد معانيها عبر قوالبه اللفظية..وثانياً إعطاء صورة مجملة عن ملامح شعرها وخطوطه العامة…

ـــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــ

قصيدة ((لِمَ أًحبًّكَ؟))

ابتدأت الشاعرة ديوانها بقصيدة لمَ أحبك؟ وهي عبارة عن عدّ ة لوحات شعرية تبدأ بنفس المقطع الذي ابتدأت به العنوان ،والقصيدة في تقديري تشبه الباب الذي سوف تلج منه الشاعرة وبكلّ عنفوانها إلى المعاني الأخرى والتي تدور أغلبها حول سلطنة الحب والعشق والعاطفة.

لمَ أحبًّكَ؟ سؤال يحتاج إلى جواب ولعل الجواب لا تعدّ وجوده فقرات المقطوعة نفسها بل يتعدّاها إلى أغلب القصائد والتي تدور كما قلنا في فلك الحب.

لغة الانزياح (المجاز)كانت رفيقة للغة المشاعر والعشق ،فنحن أمام لوحات خيال بألوان زاهية وتتجلى شخصية مريم في أول قصيدة في ديوانها حيث كانت قصيدة لمَ أحبكَ؟  كما قلت الباب الذي سوف نلج منه إلى بقية أشعارها ونعرف من خلال هذه القصيدة لغة الشاعرة التي تستخدمها مريم.

لغة القصيدة تعتمد على التشبيه والمجاز ورقة العبارة وسلاسة السرد الشعري وموسيقاها العذبة وانتقالاتها السريعة والمحكمة من مفردةٍ لها صورتها السيمية إلى أخرى أكثر جمالاً ورقةً ويدور جمالها مع الوحدة الموضوعية للقصيدة.

تتجلى شخصية الشاعرة من خلال رقة أسلوبها الشاعري وكثرة الصور الجمالية في معظم قصائدها ولقد كانت قصيدة (لمَ أحبك؟) عبارة عن مجموعة كبيرة من التشبيهات والمجازات وفن الاستعارة تترى بشكل متسلسل وكأن مريم ترسمُ لوحةً بألوانٍ زاهية.

من صورة الليل المتدفق إلى أفواه البحار التي تردد اسم حبيبها على مسامع الريح …صور فيها مسحة العشق الأفلاطوني والصوفي إذا جاز التعبير.

*************

حينَ يتدفقُ الليلُ 

من أفواه البحار 

يُردّدُ اسمُكَ على مسامع الرّيح.

*********************

ثلاثُ صورٍ محكمة مع بعضها تنتج صوراً أخرى أكثر جمالا وكأننا أمام جملةٍ شرطية يتوقف جوابها على فعله

*********************

فتهبطُ آياتُ الحبِّ كلها

وتتجلى سورةُ الفراق

وتضحكُ القناديلُ

   برهة

  ثم    تبكي

******************

انتقالة الشاعرة كانت بعد مقدمة يملؤها التفاؤل ومشاعر السرور والفرح ولكن تأتي (ثمّ) لتنتقل الشاعرة عبر حرف العطف إلى صورة الحزن والتي هي صورة بالضد من الصورة الأولى وقد بدأت الشاعرة الصورة الجديدة بالفعل تبكي وهو فعل مضارع يفيد التجدد والاستمرار لحدث البكاء ودوام الحزن …صورة رغم أنها حزينة إلا أن الجمال يغلفها بإطار ساحر.

***************

ثمّ تبكي

على كتف الطرقات

************

أيّ بكاءٍ على كتف الطرقات وأي سحر في لغة الانزياح الحالمة والتي طارت بها مريم لتعبر كلّ الغيوم إلى سماء صافية.

ثم تنتقل الشاعر إلى لوحةٍ جديدة في الإطار العام لوحدة القصيدة الموضوعية ،وتبدأ بنفس السؤال

************

لِمَ أحبكَ؟

ألأنّكَ الوحي ونقيضهُ؟

أو لأنّك تلكَ القصيدةُ الأقرب إلى الله؟

أو لأنّكَ نقطةٌ في الكون منّي؟

لا طريقَ إليها أو منها

في اللوحة المتقدمة تفترض الشاعرة أجوبةً من وحي خيالها المفعم بالإبداع والسحر والدلالة البعيدة ..تنتقلُ مريم في هذه اللوحة إلى مساحةٍ العشق الأفلاطوني وتفلسفه بأنّه وحيٌّ أو نقيضهُ،أو قصيدةً  أقرب إلى الله ،ولا تكون إلا تلك القصيدة والتي مدادها من نورٍ سرمديّ وصاحبها ذائب في ملكوت الرب لا يشعرُ إلا بفيضه في محيط وجوده الصغير.

أو لأنّكَ نقطة في الكون منّي 

لا طريقَ إليها أو منها 

السؤال ترى كيف يكون المحب نقطةً من محبوبه؟ إلا أن يكون قطعةً منه أو بعض فيض مشاعره التي ارتبطت بفيض معشوقه.

لا طريقَ إليها أو منها 

لعلّه فراق إلى مكانٍ بعيد…

وتستمرُ الشاعرة في عرض لوحاتها التي رسمتها بنور عشقها وصفاء مودتها

***********

لِمَ أحبّكَ؟

ألأنّكَ قدّمتني قرباناً للعشب

وأعلنتٌ إنسانيتي على يديك

ومتُّ وأنا ألفظُ شهادتي

لا حبيبَ إلا أنت

**********

لوحة أصبحت فيها مريم تكشف سرّ هذا الحب وهذا الربط العجيب بينها وبين من تناديه بسؤالٍ مفترض.

لوحةٌ أرى فيها صورة الطفل الذي ولدته أمه وهي بين الحياة والموت إ وهي تعلنُ إنسانيتها بولادة الإنسان ،وتتصلُ حالة المخاض بالموت وتقترب أشباحه من امرأةٍ عكفت بكلّ جوارحها على وليدها أن يخرج سالماً حتى لو كلفها ذلك أن تتلفظ الشهادة عند ولادته…

لوحةٌ عرضت فيها مريم مشتاوي صوراً أخرى من صور الحب الخالد وهي تجيب على سؤالٍ مفترض بأسئلة وأجوبتها فيها.

لمَ أحبكَ ؟

ألأنّك قدّمتني قرباً للعشق

ربّما كان هذا العشق هو الطريق للفداء والتجلي ولاتحاد،،

وأعلنتُ إنسانيتي على يديك

إنه العشق الطاهر الذي يسمو بصاحبه إلى أرفع مقام في قاموس  الإنسانية.

ومتُّ وأنا ألفظُ شهادتي 

لا حبيبَ إلا أنت

الموت هو الحياة الجديدة في رحاب النور والحقيقة التي تجلّت دون غمام .هي شهادة من العاشقة بأنه الحبيب المتفرد بكلّ خصيصةٍ تجعل حبّه خالداً وأوحدا.

في اللوحة الأخيرة كأننا أمام فراقٌ أبديّ بين حبيبين أنار أحدهما ظلمة الآخر وحلّ بسبب ضيائه الملائكي  فجرٌ جديد ،ولكنّ دورة الحياة لا بدّ لها من منغصات وكأنها تستفزّ الحب ولتجعل جذوته متوهجة في استمرارية ربما لا يتحملها كلّ محب.

**********

لمَ أحبّكَ 

ألأنّكَ أضأت الفجرَ

من صخوري

ورحلت مع أول برعمٍ يتفتح

من رحم القسوة

لمَ رحلت ـــ لِمَ ؟

***********

في نهاية هذه الرحلة الجميلة لنا وقفة في  التقييم العام للقصيدة وكما يلي:

1- عنوان القصيدة سؤال مفترض والمحور الذي دارت حوله كل اللوحات الجميلة بلغة بديعة وتوصيف العنوان كان حاضراً في مجموع مقاطع القصيدة.

2- لغة  الشاعرة في المحور التركيبي اللفظي كان متينا جداً بسبب الربط  والعلاقة الإعرابية بين الألفاظ.إضافة إلى قوة الجانب الصرفي والصوتي .

3- أما على مستوى المحور العمودي الأسلوبي رأينا لغة الانزياح الكبيرة و الشديدة في الجانب الدلالي ،حتى كنت أظن أن الشعرة في حالة اتصال روحي مع النجوم والقمر والسماء ولن تنزل بمشاعرها للعالم السفلي وتتكلم بألفاظهم دون مجاز أو تشبيه أو إفراط في الصور البلاغية الرائعة والتي تنمّ على تمكن الشاعرة من أدواتها المعرفية.

4- المفردات اللغوية أو المعجم اللغوي للشاعرة في هذه القصيدة تتميّز بالمفردة الواضحة والبعيدة عن المفردة الصعبة والموحشة.

 

*ناقد من العراق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى