‘خان الشابندر’.. الفجيعة العراقية والانسحاق المجتمعي
الجسرة الثقافية الالكترونية
تعد رواية “خان الشابندر” – وهي الثالثة للكاتب العراقي محمد حيّاوي – محاولة لإعادة اكتشاف الذات العراقية التي تبدّدت ملامحها بعد الحرب وسقوط الديكتاتورية.
وتستند ثيمة الرواية ـ الصادرة حديثا عن دار الآداب البيروتية ـ إلى الفجيعة والانسحاق المجتمعي بين ممارسات الديكتاتورية وبشاعة الارهاب وانفلات الأمن في البلاد وسنوات الحرب الأهلية.
ويحاول بطل الرواية، العائد تواً إلى العراق بعد غياب أكثر من عشرين سنة، أن يفهم طبيعة المتغيرات الإجتماعية العميقة التي حصلت للناس والأمكنة ونمط العلاقات وذكريات الماضي، لكنه يُحبط في النهاية عندما يكتشف أن تلك العلاقات ونمط الحياة قد تشوّهت وتحوّل البشر إلى موتى أحياء لا ذاكرة لهم ولا مستقبل، مجرّد حاضر دام يتمرغ في مخاضة من العنف والدماء.
وفي المقابل ثمَّة قِصَّة حُبّ فادح تربط البطل بإحدى الفتيات “هند”، التي تتوعده بالسعادة والحماية والتمتّع بحدائقها، لكن مقابل ثمن باهظ سيدفعه من وعيه ومفهومه الفلسفي للحياة.
“.. سنحرسك في الليالي الحالكة حتى من دون أن ترانا.. لكن احذر.. لأنّك لن تعود إلى طبيعتك السابقة على الإطلاق.. إستعد اذن.. اترك تخاذلك وجبنك وتهيأ لاحتراق روحك في كانون محبتنا الموجعة.. فبعد تلك الساعة لن تعود كما كنت ولن تعود الحياة كما عرفت.”
وتبدأ الرواية عندما يحاول البطل/ الراوي زيارة أحد أحياء بغداد القديمة في منطقة “الحيدرخانة”، حيث كانت تنتشر بيوت الدعارة التي زارها في شبابه واكتشف في أحدها رجولته البِكر، عندما كانت تضج بالحركة والموسيقى والحكايات الحزينة والفتيات المُحبطات اللواتي قدِمن من خلفيات متنوّعة، لكنَّه يجد كل شيء مخرباً ومُهدماً والبيوت خاوية على عروشها، وخان الشابندر، الذي كان في الماضي مركزاً لتجارة الفضة وعقد الصفقات التجارية الكبيرة، مُحطّماً وسقوفه مُنهارة تمرح فيه القطط والجرذان.
وانطلاقاً من هذه الرؤيا الغائمة يصرُّ البطل على إعادة بناء تلك العوالم الملوّنة من جديد، حتَّى ولو في مخيلته المتعبة، وينجح باستدعاء عدد من الشخصيات التي مازالت صورها شاخصة في ذاكرته ليقيم عوالمَ من الخيال المجنّح يخوض فيها كبديل موضوعي عن فداحة الواقع المرير المتجسَّد بانفجارات الشوارع المتواصلة والبنايات المُهدّمة وانتشار الخوف ونقاط التفتيش والخانات المهجورة والبيوت الآيلة للسقوط تتخاطف في أجوافها الأشباح.
خيال مُطلق يتجسَّد بإعادة بناء الماضي بطريقة آسرة، فتعود تلك البيوت والخانات إلى شكلها من جديد وتعود الحياة لتدب فيها، لكن تحت سياط الحرب الأهلية وصراع الميليشيات الدامي.
تارة يفرض الواقع الفادح هيمنته على أحداث الرواية وتارة أخرى ينجح الخيال في إدامة عوالمه الممتعة الضاجّة بالحُبّ والأمنيات والأمال، في متوالية مدوّخة، حتَّى النهاية، عندما ينهار كل شيء ويندحر الخيال وتتحطم الرؤى المُتخيَّلة بطريقة مهولة ويبقى الواقع الفادح بتفصيلاته الصادمة، عندما يكتشف البطل المنكوب بحبه أن رجال الميليشيات قاموا بذبح جميع الفتيات ذات ليلة ماطرة وزرعوا رؤوسهن على تل الحِطام الذي خلّفه تفجير بيتهن.
لقد نجحت الرواية، وعلى الرغم من كم الألم الهائل، في بناء يوتوبيا بديلة للمدينة المُنتهكة، يوتوبيا مُعلّقة بين السماء والأرض، تتخاطف في فضاءاتها الملائكة وينثر فيها الحكماء مُثلهم وتتجسد بين أضلاع خرائبها صحائف تاريخ مضى ولن يعود.
المصدر: ميدل ايست اونلاين