الكاتب الفلسطيني لا يمكن أن يكتب بمنأى عن القضية الوطنية

اJEjtRAjeusQK51WFJBFDB5m0mL8dtHلجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

أجرى الحوار: طارق مكاوي

*تلعب الطفولة دورا مهما في تشكيل هوية الإنسان، كيف أسست الطفولة الهوية الإبداعية لدى المبدع؟

بدون أدنى شك الطفولة هي حجر الزاوية في هوية الإنسان بشكل عام والمبدع بشكل خاص. بالنسبة لي عالم الطفولة ظل متشبثا في حياتي المتشكلة إلى الصبا والبلوغ من هنا تراكمات التفاصيل والأحداث شهدت عندي حدة معينة كان لا بد من حلها ومن هنا جاء كتابي “شبابيك الغزالة” الذي روي على لسان طفلة لحياة طفلة فلسطينية تعيش واقع التأزم في قرية منسية على خارطة الدولة العبرية. التناقض الذي شهدته طفولتي بين عوالم مختلفة متناقضة منها إيمان أمي الشديد بالمسيح وبين أبي الشيوعي الذي فر من الجيش الإسرائيلي بعد أن انتسب إليه عند قيام الدولة لأشهر ككثير من الشباب الذين اعتقدوا في جيش المحتل منفذا من البطالة والجوع والتهميش الاجتماعي السياسي والخوف الأمني وقتها.

أبي اغرم بالكتب حوت مكتبته أفضل واهم الكتب الشعرية والأدبية واليسارية الثورية وقتها، أبي أعجب بجورج حبش وعلق صورة ماركس ولينين على حوائط المنزل الصغير. أمي بدورها علقت صور القديسين. ورغم إيمان أمي الشديد فهي مثلا لم تكن تذهب إلى الكنيسة كانت تؤمن أن الإيمان باله  هو ذاتي وهي لم تقل أبدا أن الشيوعيون لا يؤمنون بالله وإنما سمعت هذه الجملة  من معلمة لي  وأنا في الصف السابع  ولقد جرحتني الجملة  كثيرا  لان المعلمة نظرت إلي وكأنها تضعني (كبنت شيوعي)  في قفص الاتهام. في طفولتي عجزت أن افهم لماذا لم احمل العلم الإسرائيلي في يوم الاستقلال ولماذا لم نحتفل بهذا اليوم. كنت اشعر باني مختلفة لان أبناء الصف كانوا يتبارون إلى أي نزهة أو رحلة أخذتهم العائلة في هذا اليوم. الوضع الاقتصادي التعس لأب يعمل يوما ويتعطل أياما وخروج أمي إلى العمل في مصنع للخياطة في المدينة كان له اثر كبير في الإحساس بفقدان الشخصية البيت وفي تحملي وشقيقتي الكبرى مسؤوليات البيت والأخوة الصغار.

تفوقي في الدراسة كان نقطة الضوء الواضحة في طفولتي. ورغم ذلك لم تخل من إشكالات. لان بنت الفقير والمهمش اجتماعيا لا يمكن أن تتفوق على بنت الغني. ومن هنا كان صراع طبقي واجتماعي اثر بحدة في طفولتي يظهر جليا في “شبابيك الغزالة” وبين الحين والآخر في كتاباتي الأخرى.

كون أبي من أوائل الشيوعيين في القرية فقد استقبل في بيتنا والأصح ساحته الترابية العديد من الشخصيات الهامة في الحزب الشيوعي كاميل توما، وتوفيق زياد، وأميل حبيبي، الذين كانوا أيضا شعراء وكتاب مهمين. ومن هنا شكلت الطفولة هويتي فقد رأيت أن الكاتب الفلسطيني لا يمكن أن يكتب بمنأى عن القضية الوطنية   ومن هنا أيضا توجهت لدارسة العلوم السياسية  لان السياسة والأدب كانا العاملين المسيطرين عل طفولتي ومن ثم على حياتي كلها.

*لنتكلم عن التجربة الأولى للكتابة عن الإبداع ومهابط الإحباط في سيرة الكاتب؟

البداية كانت في سن مبكرة جدا على شكل كتابة المذكرات الشخصية وكل ما يمر بي من أحداث. كان هذا في الصف الرابع وقد حافظت على هذه العادة حتى اليوم. احتفظ إلى يومنا هذا بجميع دفاتر مذكراتي وأقرا بها من حين لآخر اضحك أحيانا وأتعجب أحيانا أخرى. أول قصيدة شعر كانت عن ضياع الأحلام كتبتها في الصف السادس. وفي الصف الثامن بدأت اكتب بشكل مستمر الشعر وكان أولاد صفي مبهورين بي ومن ثم المعلمين وبرزت لست كأشطر تلميذة وإنما أيضا كمبدعة أقرا الشعر في المناسبات وأدير الندوات إلى جانب أني كنت صاحبة صوت جميل وقد لقبني أستاذ الموسيقى في حينها “بلبل المدرسة”

دائما كنت افصل بيت التجربة الأولى للكتابة والتجربة الأولى للنشر. حين نشرت لأول مرة في صحيفة الصنارة عام 1995 كان الوضع السياسي في غليان. أحداث هامة عصفت بنا من اغتيال يحيى عياش وبدء العمليات الاستشهادية، اغتيال رابين وتتويج قسم كبير من العرب في الداخل له كأب حنون وبطل السلام ومن ثم الدخول بالآلاف في صفوف حزب العمل. اعتلاء نتانياهو الحكم والمجزرة الدموية عند إغلاق نفق الأقصى أخذت اكتب باندفاع وكنت الفتاة الوحيدة التي تكتب المقال السياسي. وكنت دائما أن انزعج من الصفحات النسائية التي تتجاهل أن المرأة هي كيان كامل ومن الكاتبات اللاتي لم تحرك بهن الأحداث أي قلم فبقيوا على وتيرة “حبيبي يا عيني”.

بداية النشر ككاتبة لمقال سياسي جعل الكثيرين يضعونني في خانة الصحافة وليس في خانة الأدب. حين قررت نشر كتابي الأول”برتقال المدى الأسود” عرضته على كاتب مشهور حاول أن يقنعني بالانتظار لكنني لم اقتنع. نشرت تجربتي الأولى التي قوبلت بالترحاب الشديد عشرات من الرسائل وصلتني تشجعني. تجربة النشر الأولى هامة جدا ولكنها تأتي بعد الكتابة بكثير ومن بعض الاحباطات التي قابلتها هي وضع النقد في مجتمعنا والذي تتحكم به العلاقات الشخصية والمستوى الاجتماعي للكاتب أكثر من مدى الإبداع نفسه. إحباط آخر هو مدى تقييم الكاتب بحسب أهمية المرحلة التي عاشها فهناك الكثير من الكتاب الهامشيين على مستوى الإبداع في رأيي اكتسبوا شهرة المرحلة القاسية التي مر بها شعبنا أيام الحكم العسكري أو فقط لأنهم كتبوا في زمن الاحتلال. تمتد مسيرة الإحباط اليوم في “طنطنة” بعض الكتاب والصحافيين من العالم العربي لأي كاتب فقط لأنه من “عرب 48” وكان كون الكاتب من مكان معين يؤهله اوتوماتيكيا لحمل لقب الكاتب والشاعر المبدع. قضية أخرى تشغلني وهي هذا الانفلات في “سوق النشر” وتحول كل من هب ودب إلى كاتب ومبدع وأديب كما هو الحال في سوق الاسطوانات والأفلام هي بالأساس حالة عامة من فقدانا الأصالة،  الوعي، والسخف

* حينما نكون أطفالا، هل هناك شيء يوجهنا تجاه الإبداع، باعتقادك ما هو؟

دفيئة الطفولة الأولى هي البيت ومن ثم المدرسة وبعدها القرية، الإبداع لا يكتسب ولكنه بلا شك تعبير كتابي لحساسية مفرطة تجاه الأمور نمر عليها باهتمام شديد في حين لا تستوقف العابرين لا اعتقد أن هنالك من يوجه الكاتب نحو الإبداع سوى ذاته وصدقه هو، العوامل الأخرى التي قد تشجع المبدع هي غير أساسية لان المبدع يكتب بغض النظر عن التوجيهات الخارجية عندي مثلا الكتابة لا أتحكم بها بل هي تفرض نفسها وعندها لا استطع أن أتجاهلها

*دائما يتكلم المبدعون عن القلق، على الأغلب ينطلقون بهذه الدافعية، ما الذي خبأته الطفولة فينا؟

من الجمل القليلة التي حفظتها من زمن بعيد كانت جملة لتولستوي تقول”إن الطمأنينة حقارة نفسية” حساسية الإنسان تجاه غيره وتجاه واقعنا الفلسطيني والعربي والإنساني لا يمكن أن يترك للإنسان مساحة للطمأنينة. على قلق دائم دون شك هي حقيقة لدى الكاتب الذي تستوقفه حياتنا المريرة المليئة بالمعاناة والتناقضات. لان الإنسان المطمئن هو إنسان لا يرى الواقع أو يتعامى عنه. في مدينة الرصاص عناك خيط القلق الطويل الذي تعيشه بطلة الرواية سيرا، هو القلق الذي لا يحوي فقط الإخفاقات الشخصية وإنما يمتد إلى نواحي حياتنا الاجتماعية والوطنية والسياسية. في طفولتي قلقي الأول كان على أمي: اذكر انه مع كل موعد لقدوم أمي من العمل كنا نتكوم على عتبة البيت ونندفع بشوق شديد وكأنها غابت عاما كاملا. يتجسد هذا القلق بصورة واضحة في قصة”ستي يا ستي” في شبابيك الغزالة. في قصيدة “آسفة” في كتابي ” الخطايا العشر ” أقول

آسفة

 أني بقيت وفرشاتي الصغيرة

ألون جدراني السوداء

 وأحارب شيطان الأرق

فانا امرأة تعاني من عقدة القلق

 ومن عقدة الإفراط في الحب

 ومن الجنون 

ومن الحنين

لحقل دفء

على مرمى البصر.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى