الرسام العراقي سنان حسين يفتح غرف الخيال

الجسرة الثقافية الالكترونية

مهى سلطان

4DJw3QaR2k80qH0D6ZMkrlbVu6q3G1

عاشقون هائمون في بحور الخيال، بهلوانات… كائنات غريبة مقنّعة… ملوك وصعاليك ونساء مثل عرائس القماش وأطفال يعيشون كما النبات والأزهار، كلهم معلقون في فضاء موهوم. إنه الفضاء الاستعاري الخاص النابع من العوالم الغرائبية التي تتميز بها أعمال الفنان العراقي سنان حسين (المقيم منذ العام 2010 في لوس انجيليس) الذي يحقق صعوداً ملحوظاً في مشهدية الفن العربي المعاصر. ليس لأن عالمه مليء بالخرافات والأساطير ولا لدواعي التشخيصية بحضورها الطاغي والآسر، بل لأن أسلوبه هو المحرك الحقيقي الذي يكمن لهذا الفيض من الخيال كي يحيل العالم الى حقائق جمالية مرتبطة بالفانتازيا وكذلك بالسرد القصصي ذي الطابع الهزلي الرشيق والأيقنة احياناً. لذا تظهر كائناته لعوبة ومرحة وهي تتقمص أدوارها وتتقاسم منصّة اللوحة على أنها فضاءٌ بديل عن مسرح الحياة نفسها. كل ذلك يبدو ظاهرياً بسيطاً إلا ان تلك الكائنات تمتلك في أعمال سنان الكثير من الغموض والرموزية والسيميائية – الدلالية ما يؤهّلها للارتقاء من منزلة المعرفة الدنيا الى المعرفة العليا (المرتبطة بجماليات ديكارت). إلا ان التردد بين الذاكرة والتخييل، لا يصل الى ثنائية ما بعد الموت والبحث عن الخلود، بل الى سردية بصرية شغوفة بتفاصيلها وزخارفها، عائمة على سطح بلا قعر وبلا سياقات محددة، في سعي دؤوب الى ما وراء الزمن، بل الى ثنائية الظاهر والباطن.

بين موروثاته وما يمتلكه في الفن ويسيطر عليه بقوة، هكذا هي حال سنان حسين في نتاجه الأخير الذي قدمه في معرض مساحة رواق (المنامة – البحرين – حتى أواخر شباط – فبراير 2016)، تحت عنوان «هيج» وهي كلمة معروفة في العراق بدلالاتها الروحانية، وتشير احياناً إلى حياة لا وجود لها بالمعنى الحقيقي، وربما تعني عدم الاكتراث أو اللامبالاة. لذا تنبري على مسرح اللوحة شخصيات متشابهة ومتناسخة بملامح ضخمة وعيون كبيرة لا تملك أيدي ولا أكتافاً، أرجلها مضمومة لكنها لا تلامس بلاط الغرفة. هم أزواج تتهامس أرواحهم أحياناً في برارٍ غزلانها شاردة، تراهم متجمدين بلا حراك برؤوس كبيرة وإيماءات مبهمة، او تراهم مجتمعين كعائلات صغاراً وكباراً سعداء بغيابهم، لا ذاكرة لهم سوى صور الأعراس والمناسبات، وتجدهم ببزّات عسكرية بائدة، أو ببذلات «الكارو» القديمة والمستهلكة يعيشون في عزلة داخل غرف مغلقة او يتنقلون في بساتين فردوسية. إذاً الشخصيات وجودها استعاري، لكأنها أرواح قلقة هي ما بين دار الفناء ودار البقاء تبحث عن حياة أخرى في أزمنة افتراضية مستوحاة من الحياة الأرضية، لكنها تظل بعيدة من مخاطبة جروح الحرب وآلامها ونتائج دمار المدن والمجازر والقتل، التي تعيشها المجتمعات العربية راهناً إلا رمزاً.

يخلص الخطاب الذي يحكي عن عالم سنان الى احتفالية مشهدية بحلة تعبيرية مستمدة من حركة الشخوص وتموضعاتها في سياق الحكاية، وليست اللوحة وحدها تحلم أن تغادر الحائط إلى مسرح طليق بل إن الفنان نفسه يتقنّع بقناع أبيض كي يتماهي أكثر مع الأوهام التي يعيشها أبطاله.

هذا البحث عن اللامنطق واللامعقول بمعنى المجهول، بأدوات من الواقع المعلوم وأشياء وأغراض من الحياة اليومية يقع في ما بعد السوريالي، بين المقدس والسحري والاعتراضي والساخر، والعبثي والشعري، ينبري مثل اللغز الذي وقف عنده الفيلسوف نيتشه وحيّر جيورجيو دو شيريكو ورينيه ماغريب من قبل، وهو الذي حرّك رمزية ارنولد بوكلين في البحث عن جزر الوهم. إذ حين تكون الهستيريا هي الواقع نفسه، فإن التخييل يغدو أمامها باهتاً وضعيفاً إذا افتقر إلى النار الداخلية التي تنبعث شعلتها من توق الفنان نفسه لكي يحقق ذاته في مواجهة العالم. هكذا أدرك سنان ان هذه المطارحة لتقاطعات الأزمنة والأمكنة والوقوف بين الحقيقة والوهم، تحتاج إلى قاعدة وأن هذه التشخيصية لا بد لها من مناخات أو بيئة تصويرية مرافقة يكون مقامها كما الديكور بالنسبة إلى المسرح. هكذا تظهر مساعي سنان لاستيحاء الموروث التراثي والشعبي العراقي وإظهاره في حلة معاصرة خصوصاً وأن التقنية التلوينية لديه تلعب دوراً كبيراً في إضفاء أنواع من الملامس والتعبيرات مع استخدام العجائن والكولاج والتنقيط وأسلوب التأطير الزخرفي والألوان الذهبية البراقة والكتابات الخطية والرموز الحيوانية والأشكال النباتية.

من هنا أهمية التعمق بثقافة التاريخ وفن المنمنمات وفن «الترقين» العربي وتصاوير الكتب والمخطوطات وفن الخط والرقش والتزيين الشعبي، هذه العناصر الغنية بمظاهرها البصرية ومحتواها العاطفي وجذورها التراثية – الحضارية، تتراءى في لوحات سنان كتيمات من شأنها أن تخلق جمالية العناصر المكانية التي تندمج فيها موتيفات الطبيعة وأثاث الحجرات والألعاب مع الأبطال والأسماك والطيور بطريقة عشوائية تصادمية متعمّدة، بل مستحيلة. وهذه الاستحالة المركبة من تصادم العشوائية والغرائبية مع الواقع اليومي في اعمال سنان لا تبتعد من حيث الماهية عن المعالم التشخيصية المحفورة على سطوح الأختام الإسطوانية من نقوش بارزة (الريلييف) لعناصر الطبيعة والآلهة وطقسها والكائنات الخرافية من أنصاف البشر. هكذا نستطيع أن نتفهم على سبيل المثال مبررات بحث الإله جلجامش عن أسرار شجرة الخلود في عمل سنان. إذ من الفجوة الكائنة بين الأساطير وانزياحات الزمن تنطلق غالباً أفكاره حول خلق أرواح بدائية تعود الى الحياة بأشكال جديدة. ولعل في تلك العودة للروح العراقية مساحة كبيرة من التقدير للتراث الذي يتعرض حالياً للتدمير والسرقة والنهب. فالدمج بين الخيالية والفطرية وطيران الكائنات في الفضاء (مارك شاغال) والعلاقات المتشابكة التي تربط بين الشخوص والبورتريهات الملغزة للمرأة والرجل، ورموز الكفّ وحركات الأيدي، تشكل عالماً بدائياً طقوسياً وسحرياً تطل على الواقع من باب الغرف الوهمية للخيال المعرفي.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى