من جحيم الحرب الأهلية إلى جحيم حياة المهاجرين في باريس

الجسرة الثقافية الالكترونية

محمد عبد الرحيم

أن تقاتل لكي تحيا، وأن يصبح القتال هو الطريق الوحيد رغماً عنك، لا يهم إذا كان الهدف من أجل فكرة تؤمن بها ــ قد تتغير بمرور الوقت ــ أو من أجل الحب، وهو ما يجعلك أكثر يقيناً في ما تفعل. في الحروب الأهلية يصبح القتال من أجل آخرين، زعماء وهميين يلقون بك لتحقق لهم انتصارا، وعندما تحب يصبح القتال من أجل وجودك أنت، ومحاولة القبض على الحياة، الحياة التي قد تتغير مفرداتها، لكن لعنة أنك محارب قديم ستظل تلاحقك، وبالكاد تستطيع التقاط أنفاسك في غفلة، هكذا Dheepan الذي فرّ من جحيم الحرب الأهلية في بلاده، ليعيش جحيماً آخر في بلد النور.

يحمل الفيلم اسم الشخصية الرئيسية Dheepan، وقد حصل على السعفة الذهبية في مهرجان كان الفائت في دورته الـ 68. وأخرجه الفرنسي جاك أوديار، ويُعرض حالياً ضمن أسابيع العروض الخاصة في سينما (زاوية) في القاهرة.

الضائعون

الحرب على وشك الانتهاء، خيام منتشرة في منطقة على الحدود تشرف عليها الأمم المتحدة، ومحاولات لتهجيرهم، أطفال يصرخون بلا عائلة، ورجال ونساء في انتظار الرحيل أو الموت هكذا. يتم تهجير البعض إلى عدة دول أوروبية ــ الأُسر فقط ــ امرأة تدور بين الخيام لتبحث عن طفلة فقدت أهلها، تجدها وتسير بها، وستدّعي أنها ابنتها، يتوقف الأمر على وجود رجل يمثل دور الزوج، لتكتمل الأسرة، ويُسمح لهم بالرحيل. في خيمة القائد تقف المرأة بجوار الطفلة، وفي الظل يقف (ديبان) أحد مقاتلي نمور التاميل ــ حركة قومية انفصالية، تسعى لاستقلال شعب التاميل عن جزيرة سريلانكا وإنشاء دولة في السواحل الشمالية والشرقية للجزيرة، اعتبرتها الولايات المتحدة وعدة دول أخرى كمنظمة إرهابية منذ عام 1997، وانتهت الحركة في عام 2009 ــ الكل الآن أصبح بالمصادفة ملاذاً للآخر حتى يفر من هذا الجحيم، هذه المصادفة التي تخلق علاقة زائفة بين ثلاثة أشخاص.. رجل وامرأته وطفلته، ويصبح المصير هو باريس.

المهاجرون

يصل ديبان باريس، ويجدون له عملاً ــ بصفته من ضحايا الحرب ــ كحارس لأحد العقارات في حي من أحياء المهاجرين، من ذوي الأصول العربية والأفريقية. الرجل صامت يعمل ولا يتحدث، والمرأة تريد الذهاب إلى شقيقتها في إنكلترا، والطفلة بينهما تائهة، يبدو استقرارهم الوهمي من بعيد، لكن ذكريات الحرب تطاردهم، كوابيس مزمنة لا يستطيعون الفرار منها كما كانوا يتوهمون. في البناية المقابلة رجل قعيد إثر إصابة جعلته شبه حي، لتعمل المرأة على خدمته، وتحتفظ بنقودها استعداداً للسفر. إلا أن الحي بالكامل يسكنه تجار المخدرات، المتواطئون مع رجال الشرطة في أغلب الوقت. ولتتم تصفية معاركهم وحساباتهم تحت أعين الجميع هنا، لتبدأ رحلة أخرى من الرعب، بأن يتم إطلاق الرصاص وتختبئ المرأة والطفلة، ويتخطاهما الموت في أعجوبة، هذه إذن باريس، وهذا وهم لحظات الأمان، لتصرخ المرأة باكية «إلى أي مكان نذهب!».

المهووسون

في احتفال ديني تتجمع العائلات ويذهبون إلى المعبد والحدائق، ديبان وأسرته بين ذويهم من المهاجرين، وتبدأ علاقة الحب بينه وبين المرأة، وبينما يستلقي في غفوة سلام، يأتيه رجل من بلاده ــ أحد الدبلوماسيين ــ الذي وافق على منحه حق اللجوء إلى باريس، ويخبره بمقابله مهمة مع أحد الزعماء.

يرتجف ديبان، وهو يعرف بألا مفر إلا الذهاب. ليبدو الكولونيل المهزوم، مؤكداً لديبان بأن الحرب ستبدأ من جديد، وأنه أتى لشراء أسلحة من الأصدقاء في لبنان وبمساعدة الفرنسيين، ويريد من ديبان العودة. «الحرب انتهت» هكذا يقول ديبان للكولونيل، فيضربه الأخير بقسوة، لأنه خالف الأوامر العسكرية. «إنها حربك أنت .. أما أنا فالحرب بالنسبة لي انتهت». لم يدرك ديبان أن الحرب تنتظره في مكان آخر، وقد بدأت عصابات المخدرات تصفية المنافسين في الحي، فالرجل المقعد تم قتله، وابنه رئيس المجموعة الآن على وشك الموت، والمرأة بجواره وطلقات الرصاص حولهما، وتريد من ديبان إنقاذها، وهو حبيس أوهام قائده العسكري مُقيّد إلى كرسي في حجرة بعيدة.

المُحبّون

وكأنه في إحدى حروب بلاده، يخرج خائر القوى، وآثار التعذيب على وجهه وجسده، ولا سبيل إلا الاستمرار، هذه المرّة ليس لإنقاذ شرف قائده الضائع، بل من أجل المرأة التي يحب ــ كان دوماً ينظر إلى قتال عصابات المخدرات على كونه ألعاب مجموعة من المخنثين ــ وينجح أخيراً في إنقاذ المرأة، وقد أصبح يتعرّف كل منهما على الآخر في حالة مشابهة تماماً كحالة الخيام المتراصة وسط الغبار والدخان والصراخ، لكنه في هذه اللحظة أصبح على يقين تام بما يفعله ويحارب من أجله، إنه يحارب من أجل الحب.

غفوة سلام

يصل ديبان وأسرته الحقيقية الآن إلى إنكلترا، وقد تزوج المرأة وانجب طفلاً، وأصبحت طفلة الخيام الضائعة ابنتهما بالفعل، حياة هادئة وأسرة تأمل في سعادة حقيقة، لكن نظرة الرجل في النهاية رغم السكينة والهدوء تحمل قدراً من شك في دوام هذه اللحظة. عند هذه الغفوة المفترضة من السلام ينتهي الفيلم، ليثير العديد من القضايا سياسياً ووجودياً. ما بين دولة تقبل الضحايا كلاجئين، وتساعد قادة الحرب في توفير السلاح. ومواقف الدبلوماسيين في هذه الحروب. المسألة الأهم وهي فكرة استمرار الشخص في القتال، وكأنه قدر، فلا فارق بين جحيم النيران وبرودة الرصاص فوق الأراضي الفرنسية، فمجموعات المهاجرين دوماً موصومة، ومتروك لها العمل بالتجارة غير الشرعية، والنظام يعرف ويتركهم طالما يتماشى ذلك ومصالحه، ولا يُظهر الوجه الآخر إلا عندما تصاب مصالحه.

النظام بعيد، ويخلق حالة حرب يخوضها الآخرون بدلاً منه ــ تماماً كالقائد العسكري الباحث عن مجده ــ وما حي العشوائيات الباريسي إلا ساحة قتال، تجسّد مفاسد الغرب، وتمثل الصورة الحقيقية لما يعيشه، الذي يظل دوماً يحاول أن يُخفيها وينفيها، بل ويُقاتلها في شراسة أمام الإعلام وقبيل الانتخابات الرئاسية. فئة تستخدم أخرى، ولا يهمها سوى الاحتفاظ بمكاسبها وشكلها المتحضر أمام العالم، وليس على الآخرين سوى مواصلة قتالهم، ولكن من خلال لحظة وعي بمعرفة حقيقة بأنهم من أجل أي شيء يُقاتلون. وقد حاول الفيلم الإجابة من خلال رحلة مُجهِدة، فالمعنى الوحيد للقتال هو أن تفعل ذلك من أجل قلب امرأة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى