اللاجئ.. للكاتب السوري خليل البدوي

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

حين رأيت العلامة الخضراء لم أصدق ذلك، اعتقدت أن عيناي قد خاناتاني، أولربما أصبت بعمى الألوان الذي طالما أرعب جدتي من أن يصيبها، تقول أخاف أن لا أرى عيني خليل الخضراوتين من جديد على الرغم من أن صوره جميعها كانت بالأبيض والأسود لكنها اعتادت أن ترينا الصور وتقول انظروا إلى عيني جدكم الخضراء، اعترضنا عليها أولاً لكننا اعتدنا ذلك منها، نسيت أن أقول خليل زوجها الذي سميت أنا على اسمه وكانت تحبني أكثر من كل أحفادها لأنها كانت ترى عيني زوجها الذي ذهب منذ ما يقارب الأربعين عاماً، حين مات لبست ثياب الحداد عليه لما يقارب العشر سنوات، وقالت لن يمسني رجلٌ بعد خليل، ماتت بين يدي وهي تنظر إلى عينيّ …. عيني خليل.
أعدت فتح الموقع من جديد، أخرجت بطاقة اللجوء المؤقته لأتأكد من الرقم الذي حفظته وحفظت معه أرقام أصدقائي جميعها وكنت أتأكد كل يوم منهم فيما إذا صدرت نتيجة أحدهم، صدرت عدد من النتائج استقبلتها بفرح ناقص شعرت بضيقٍ، لكني أرضيت نفسي ببعض الكلمات وسيجارة ومشيت.
أدخلت الرقم بتمعن وهدوء، ضغطت على الزر الإظهار …. أغمضت عينيّ خوفاً من الصدمة من أن يكون هناك عطلٌ ما في الموقع، لقد حصلت فعلاً لأحدهم وكانت النتيجة انتحارٌ في البحيرة مع ربط قدميه بأكياسٍ مليئةٍ بالحجارة، بحث رفاقه عنه كثيراً اتصلو بالنجدة أتت مُشطت المنطقة كلها غطس أحدهم في البحيرة الباردة، لا غرابة فالوقت تشرين، أخرجوه جثةً هامدة، منتفخة البطن ومزرقة جداً نتيجة البرودة، دخلوا غرفته وجدوا صورة عائلته وبالقرب منها زهرةً نديةً وكلمةً كتبت على زجاج اللوحة سامحوني.
فتحت عيني ونزلت بالصفحة شيئاً فشيئأً للأسفل، رأيت تاريخ صدور النتيجة الذي كان اليوم نفسه، نزلت أكثر،رأيت العلامة الخضراء مجدداً، لم أكن مخطئاً…. شعرت بدوار في رأسي، تهاويت على السور الذي طالما ركلته في كل مرةٍ كانت النتيجة سلبية …. شعرت بضيقٍ في صدري لم استطع أن آخذ شيئاً من الهواء وكأنه صار ثقيلاً جداً على رئتي، ملئت النظارة بغباشةٍ من حراراة عيني اللاتي أصبحن كالجمر…. ضربات قلبي المتسارعة كجري حصانٍ في مدى وسيعٍ لا يحده سور …. اغرورقت عيناي بالدموع ….. هطلت… رأيتها جميلةٍ لأول مرة، أنا الذي طالما كانت دمعتي قريبةً جداً عند أي موقف …. تذكرت لحظات الهروب في البحر، أيامٌ طوال ٌاقتربت فيها من الموت بشكل محسوس، لمست وجهه ولمسني لكنه كان لطيفاً بي نظر أليّ يومها لم يبتسم ولم يتجهم، نظر إلي بتواطئ ومشى لغيري متجاوزني، إحدى عشر يوماً كانت كافيةً لأعيد شريط حياتي كاملاً بكل تفاصيله …. تكرر الآن في أقل من دقيقتين كضوء كاميرا تلتقط صورها على عجل.
كانت صورة أبي وهو محمولا على الأكتاف في نعشٍ خمري اللون أكثرها إيلاماً لي رغم صغر عمري يومها خمس سنوات لا أكثر، ركضت إلي أمي حملتني وقالت وهي تصرخ ((ذاك هوأباك))، وبالرغم من أني لم أفهم شيئاً يومها، مازلت أستعيده في كل فرحٍ وكأن أبي قد وشم داخل قلبي، أنا الذي طالما حملته بوجهي.
صورة زفاف عمتي بثوبها الأبيض التي أبكتني كثيراً وجعلتني أشعر بفقدان جزءاً من روحي يوم خرجت لبيت زوجها، ركضت خلف السيارة التي ركبت بها …. ركضت وصرخت ووقعت على ألأرض منهكاً بعد أن ابتعدت ولم اعد استطيع اللحاق بها أمي التي ودعتني وهي تقبل جبيني وكلامها أشبه بحشرجة سكرات الموت…. وجهها الأبيض كحلم ليلة عيد، عيناها المحمرتان ودموعا التي كانت كلمات لا ماء عيون …. زوجتي الواقفة عند الباب تنتظر دورها لأعانقها وأمضي …. أخوتي الذين بدوأكبر يومها .
حين ركبت السيارة نظرت في وجهي لم أعرف نفسي يومها كنت قدر كبرت دهراً كاملاً، حين عبرت الحدود وقلت لبلدي وداعاً …. يومها لم تردّ عليّ كما أنها لم ترد على من سبقني، ومن لحقني …. تركناها لوحدها، لمصيرها، لوجعها ونسينا أنها وسمت كل واحد خرج على وجهه كندبة حبلها السري أيضاً.
سقط الموبايل من يدي، أعادني إلى الواقع، أعدت المحاولة مرتين أوثلاثة … نعم صدرت النتيجة …. الآن أصبحت لاجئاً بعد عامٍ وأربعة عشر يوماً وحرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى