صَخبُ الشّوارع .. للكاتب التونسي عمارة عمارة

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

بَين اصْفِرار الحُزن، واخضِرار الأمَل.. القلبُ ليْمُونة ذابلة!
يُباغِتني الوَجَع، يُحاصِرُني.. وهذا الطفل مُسَجّى الآن على أرْوقة ذاكِرة هَوجاء…

بالكادِ رَفعتُ قدَمِي التي أوْشكتْ أن تترُكَ أثرًا فوق مُنتصَفِ قبْر لا يَتجاوز طوله الذرَاعَيْن. تحفِز ترابَه حُجَيْراتٌ كِلسِيّة بحَجم قبضة اليَد، وُضِعَت على شكل مُفـَلطح هو أقرَبُ إلى شكل البيْضة مِنه إلى شكل المُستطيل. وحتى الشاهِد الوحيد عند الرّأس كانت حِجارته بنفس الحَجم. وكانت حُقيْقة مَعدنِيّة خاوية، مَغرُوزة عندَ المُنتصَـف…

داسَ بَعض مَن مَرّ أمامِي على هذا القبر يَحُثون الخُطى.. وكأنـّهم يُريدونَ التخلص سريعًا مِمّن يَحمِلون، والانكِفاء إلى “دُنياهم” التي تأسِرهُم بنبْضِها السّريّ.. وثمّة مَن داسَ عليه مِمّن يَسِيرُون خَلفِي.. فقد التفتّ وأنا أمَلـّي النظرَ مِن الضّريح الصّغير، فاقِد العِناية، المَغمُور وَسط قبُور كثيرة. ولرُبّما استغرَبَ بعضُ السّائِرين خلفِي وتساءلَ ببلاهة عن سَبب التفاتاتي! ولرُبّما أيضًا لم ينتبه البَتـّة إلى ذلك “القـُبَيْر” الذي تدُوسُه بعضُ الأقدام!

وانثالتْ بين ثنايَا الرّوح اضْطِرابات.. أيَا أيّها الطفل الذي كـُنت!
انتحَيْتُ جانِبًا. وعند مُرُور آخِر المُشيِّعِين انحَنيتُ وجَلستُ القـُرفـُصاءَ عند “قبْريَ الصّغير”. وبأصابع خَرْساء قرَأتُ عَليه ما جادت به ذاكِرَتي المَوجُوعة!

أخبَرْته، أنّ هذه الحَشرَجة التي “أقـَضّتْ مَضجعَه”، إنما هي لِزُوّار غُرَباء لا يَعرفونه…

سَألنِي عَمّن داسَ على بَطنِه! وعَمّن رَكله على جَنبه! وهل أنّ هؤلاء يَهرُبونَ كيْ يَحتمُوا مِن زَخـّاتِ الرّصاص؟! أوْصانِي – إن كانوا يَهرُبون- بألاّ يَفعَلوا.. قال :
(لقد اغتالنِي “مَحْضُ لِصّ” فِي زيّ مَدَنِيّ.. لقد سَرَق رُوحِي وسَرَقنِي مِن أهلِي وأنا أهرُبُ مِن جهة الحُشود المُتدفقة إلى جهةٍ أخرى كي لا تدُوسَني الأقدام.. شهَرَ سِلاحَه فجْأة واقتنصَنِي برَصاصَة غادِرَة فِي مَوْضِع القلب! فوْق جَيب مِيدَعَتي العُلويّ، الذي كنتُ أضَع فيه قِطعة “شوكولاتة” نوَيْتُ أن تكونَ لـُمْجتِي المَدرَسِيّة قبْل أنْ أكتشِف تعَطلَ الدّروس يَومَها.. وتعَطلتْ حَرَكة أصابعِي وأنا أخِرّ وأتحَسّس “الشوكولاتة”.. وكانت أصابعِي وجَيب المِيدَعة تبْتلّ بنزيفٍ دافِئ لزج.. وشعرتُ بـ “قـَرْصَة”(1) ثمّ غَـفوت..!).

لا بَأسَ عَليك يا صغِيري!

ها قد غادَرُوا للتوّ.. فانعَمْ بسُكونِك الجَلِيل..! فليْسَ هناكَ اليومَ مِن رَصاص كيْ يَحتمُوا مِنه! ما عادَ صَخبُهم في الشوارع كعَهدِكَ به! لقـَد غَيّرُوا الخُطوات.. وغَيّرُوا الأصْوات بَعْد! فلم يَعُد هُنالِك مِن مُوجبٍ لرَصاص يُخرسُها.. وقد اسْتغنى سائِسُهم عَنه.. واقتادَهُم بكـُلّ حِنكة “فـُرْسانُ القِدّيس جـُون”…!!!.

(1) نِسبة إلى الحَديث الشريف الذي يقول بأنّ الشهيد لحظة استشهاده، لا يَشعر بالألم الذي نتصوّره نحن تبعا للطريقة التي مات بها.

(2) “فـُرسان القِدّيس جُون” أو ما عُرف في ما بعد بـ “فرسان مالطا”، يَعُود ظهورُهم إلى سَنة 1070م كجَمعِيّة
خيريّة لإسعاف المَسيحيين مِن زُوّار القدس. وقد طرَدَهم صلاح الدّين بعد انتصاره في مَوقِعة حِطين (1187م). وعبْر مَحطات تاريخيّة عديدة بين التقلص والبُروز اجتمَع أعضاؤها بمالطا في ديسمبر 1990 بحضور 500 مَندوب مِن 22 دولة بهدف إحياء وإنعاش هذه المُنظمة الصّليبيّة. مَعرُوفون بعِدائِهم الشديد للعَرب والمُسلمِين، وقد شارَكوا في عَمليّات إبادة جَماعيّة ضِدّ مُسلِمِي البُوسْنة والهَرْسَك وكوسُوفو. ولهذه المُنظمة عَلمٌ مُستطيل أرْضِيّته حمراء وعليها الصّليب باللون الأبيض وهو عَلمُهُم الرّسمِي مُنذ عام 1130م. ولهَا تمثِيلٌ دِبلوماسِي في 96 دَولة في العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى