فيلم “سلّم إلى دمشق” سردية المسرح وتمجيد السينما

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-
*عبد الكريم قادري
يعكس الفيلم رؤى صاحبه الفنية، ومن خلاله يمكن معرفة المرجعية الثقافية والفلسفية ومدى وعي المخرج وتمكنه من أدواته السينمائية، خاصة وأن المُنتج يحمل مدلولات بسيكولوجية وسيميولوجية تُساعد على استنباط وفهم شيفرات المعنى المختلفة، وتفتيت الرسالة الظاهرة والمُبطنة، بتباعدها وتقاربها في الهدف والبصمة، من خلال إسقاط المناهج العلمية في هكذا حالات، خاصة إذا كان الفيلم/المنتج، غنيّا بالعتبات المختلفة التي يمكن تتبعها واستقراؤها من الملصق “البوستر”، مرورا بالعنوان، وانتهاء بالمتن، وهي ثلاثية رئيسية تتفرع عنها عدة عتبات ثانوية، تكشف السرّ، وتفّرّغ الفيلم من محتواه، وتحدد ماهيته مهما صعبت، لتقدمه للمتلقي كمادة جاهزة، تأخذ بيده إلى المعنى، مع إبعاد نظرية اعتباطية المعنى ومدلولاته، والتركيز على أن لكل منتج مجموعة من الرسائل التي حيكت بطريقة إرادية أو غير إرادية، مع جعله ذو قيمة فنية، يقف خلفها ناص رئيسي يتبنى جميع مواقف الفريق وهو المخرج، بوصف هذا الأخير القاطرة التي تجر العربات، وتتبنى الطرح والوُجهة.
في فيلمه الروائي الأخير ” سلّم إلى دمشق” يرسم المخرج السوري محمد ملص (1945-) طريقا مستقيما وملتويا في الآن معا، مستقيما لأنه يبرز موقفه من الأحداث الجارية في سوريا ويقول كلمته في العلن، بدون دعم وسند من أي جهة كانت، ومُلتويا لأن “الثيمة” الرئيسية المغذية للفيلم جاءت مشحونة بالخوف والترقب والندم والظلم مما يحدث في وطنه ، دون أن يُغرق فيلمه في المُباشرتية التي تقتل الفنية، وابتعاده عن الخطابية التي تكرس اتجاه خاطئ لتلقين الأفكار وإيصالها للمتلقي الذي أصبح يملك وعيّا معيّنا يسمح له بقبول أو رفض كل محتوى يشعر من خلاله بأنه مستغل بطريقة أو بأخرى، من هنا جاء فيلم ملص قويا ونشطا، مشحونا بالرؤى والكوابيس، جُسّدت عن طريقة قصص متقاطعة، محورها الأساسي، غالية (أدت الدور جيانا عنيد) التي أتت من طرطوس تبحث عن متنفس لحلمها، وهذا من خلال أخذ دروس في التمثيل بمعهد الفنون بدمشق، وهناك تلتقي بفؤاد سينما (بلال مرتيني)، حيث كانت تؤدي مشهدا لقبولها في المعهد، ومن خلال هذا المشهد التمثيلي الذي أدته على الركح وجسّدت من خلاله مأساة “زينة” التي وضعت حدا لحياتها بين أمواج البحر، نتيجة للحزن الشديد الذي انتابها بعد أن تم اعتقال والدها، بسبب مواقفه وأرائه السياسية، بالإضافة إلى تجسيدها لمأساة أخيها المعتقل أيضا بسبب أرائه، شدت لها إعجاب “فؤاد سينما”، الذي تأثر جدا بحكاية “زينة” وقرر تحقيق فيلم حولها، يتعرفان أكثر على بعضهما، إذ تتقاطع حياة كل واحد منهما مع الآخر، لتطلب “غالية” من صديقها الجديد أن يجد لها غرفة تستأجرها في دمشق، وفعلا كان لها ذلك، إذ عثر لها “فؤاد سينما” عن غرفة شاغرة في البيت الذي يقطن فيه، وهو ملك لسيدة منشغلة بالصلاة والعبادة وقراءة القرآن، هذه البيت هو انعكاس واضح لسوريا، نظرا لمرجعية الأفراد الذين يستأجرونه، بداية من العامل البسيط، اليساري، المهندس، الفنان، الجندي، المسيحي، المسلم، كل هؤلاء يمثلون سوريا بتعددها الاجتماعي والديني والسياسي، يعيشون في انسجام وتناغم واضح، لكن لكل فرد أفراحه وأتراحه، ماضيه الواضح ومستقبله الغامض، خوفه من الآتي الذي يصعب تخيله، كل فرد من هذا المجتمع المصغر الذي يقطن هذا البيت الدمشقي لديه جرح غائر نتيجة لما يحدث في سوريا، الجندي في مواجهة المعارضة، المعارضة في مواجهة الجنود، الاعتقالات اليومية، التعذيب، الخوف الذي يعيشه كل المجتمع، وهو السلوك المشترك بين جميع الأفراد والطبقات، من كان على حق، ومن كان على باطل، الكل تسيل دماءه، ولا صوت يعلو فوق صوت أزيز الرصاص، ودوي المدافع والطائرات، وأعمدة الدخان التي تغطي سماء دمشق، في هذا البيت لكل فرد حكاية يرويها، لغالية حكيها تُدميها، حكاية “زينب” التي باتت تتجسد لها طيفا، حكاية فؤاد الذي يجسدها سينمائيا، على باب المدخل الرئيس للبيت، وعلى باب غرفته، حيث تتجسد صورة والد “غالية” على شاشة العرض إذ يقول بلهجة شامية حارقة ” لما بتطلّع عالشام وبشوف الناس اللي راكضين على شغلهم موطيين روسهم وساكتين والناس اللي راجعين على بيوتهم وحاملين خضرة ولحمة ولما بشوف الناس اللي قاعدين قدام التلفزيون وعم يتفرجوا بحس وبفهم ليش سعد الله ونوّس كتب مسرحيته الفيل يا ملك الزمان…”.
كل هذا يتم مشاهدته مع معظم سكان البيت، الذي تأثروا، ليسترسل هذا الوالد المتقاعد من الجيش قائلا ” بتساءل بيني وبين حالي ليش؟. شو الهدف إنك تحبس عشرات الآلاف من الناس 17 سنة وعشر سنين و5 سنين شباب بأول أعمارهن بيفوتوا على السجون بدون ذنب بدون محاكمة بدون سبب؟. واحد قلك لأ بس أنا ما بتفق معك بالرأي عندي رأي آخر. بتحبسه عشرة سنين؟. ليش؟.. ليش؟ ليش؟..”.
من الناحية الفنية عكس الفيلم العديد من الاتجاهات السينمائية، وتداخلت فيه معظم الأشكال الفنية للمسرح، من ناحية الشكل والسرد، إذ يتم ملاحظة وبشكل جليا الحوار المعتمد في الفيلم للعديد من الممثلين، خاصة من ناحية أداء الحوار المبالغ فيه، ناهيك تداخل فنون المونودرام، والحضور الطاغي لمسرح الحكواتي، ناهيك على أن الفيلم كان تقريبا من ناحية الشكل مقسم إلى فصول جاء أغلبية مشاهده داخلية، ربما لتوسيع دائرة القلق والخوف داخل النفس البشرية، ومحاكاة للباطن فيها، لإشعارها بالضيق وبصعوبة الوضع، ومن ناحية أخرى هناك اشتغال كبير عل الفنون البصرية الحديثة، إذ تم توظيفها من طرف المخرج بشكل ذكي وواضح، ما خلق لغة بصرية جميلة، لعب فيها الظل والنور دور البطولة، وتدخل كل تلك التقنيات المشحونة جماليا تحت عباءة السينوغرافيا التي بات يعتمد عليها بشكل أساسي في المسرح الحديث، وقد وظفها محمد ملص بذكاء كبير في فيلمه، الذي احتوى أيضا على العديد من الجماليات الأخرى التي يصعب حصرها، من بينها تجسيد مفهوم مدى أهمية الفيلم السينمائي والكاميرا في الحياة اليومية، وما ينقله من مآسي يمكن من خلالها التغيير والتعبير عن مواقف ونقل الحقائق، وقد جاء على لسان فؤاد سينما ” …. علمتني الأفلام أن أحب السينما وألجأ إليها، حتى أستطيع العيش، علمتني كيف أتلاعب بالصور مع الأفكار التي تجول بخاطري…”.
“سلّم إلى دمشق” فيلم ذكي، يجسد المعنى الحقيقي للسينما، ويعكس ثقافة ومرجعية مخرجه محمد ملص، الذي أظهر من خلاله قيمته السينمائية، ومقدرته على تجسيد الخوف والهلع السوري بواسطة لغة بصرية رزينة وهادئة، لا صوت يعلو فيها فوق صوت الفن، وقد شارك وحصد العديد من الجوائز والتكريمات المحلية والدولية.
*سكرتير تحرير مجلة السينمائي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى