سورية الأسطورة والمأساة في «رُفات فراشة»

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

عمر شبانة

«رُفات فراشة» (دار التكوين) عنوان يضعُنا منذ البداية في مناخ عامّ جنائزيّ مأسويّ. كأنّ الشاعرة السورية خلود شرف أرادت أن تنقل القارئ إلى عالم تستعير له جنازة الفراشة، ليطاول الكونَ وكائناته، البشر والحجر، التاريخ والميثولوجيا. كلّها تسير، بل تعيش، في جنازات، وكلّ منها تروي وتسرد جانباً من مأساة الوجود والإنسان. وهذا ليس فقط بسبب ما يحصل في بلادنا، في سورية والعراق واليمن وغيرها، بل هي قصة الوجود نفسه، والتي تنهل منها الشاعرة. ففي أحد المقاطع تتوحد مع هذه الفراشة «مثَلي/ كَمثلِ رُفات فراشة/ يتأمّلُني»، أو تقول «أحلامي صنّارة/ فأتقنت لعبة الفراشات الهاربة/ إلى مصيرها». ومعلوم لنا ما مصير الفراشة ورمزية هذا المصير.
تمزج الشاعرة بين ما هو حياتيّ ومعيشيّ يوميّ من جهة، وبين مسائل الوجود وأسئلته من جهة ثانية. فيتداخل الجانبان على نحو يجعل قصيدة النثر هنا تجمع النفَسَ الغِنائيّ مع النفَس الملحمي التراجيديّ، فتخلق «أسطورتها» الخاصّة، وتُلملم شظايا روحها المضمّخة بالوقائع والذكريات والتأمّلات، في صوَر ومشاهد وفضاءات يلتقي فيها الواقعيّ بالسورياليّ، والطفولة بالكهولة، والموت في صوره المتعددة بالحياة في معانيها المختلفة.
ينطلق عالم خلود شرف من طفولتها، من القرية السورية في مدينتها «السويدا»، بمكوّناتها التي تطغى عليها الأجواء الحميمة والمرهفة، أجواء الطبيعة والعلاقات الإنسانية. لكنّ قصيدتها، وهي على الأغلب تتكون من مقاطع قصيرة تقارب «الهايكو» اليابانيّ، تلتقط أصغر التفاصيل والأحاسيس. وهي تذهب إلى الأسطورة فتستلهم روحها، وإلى النصّ الدينيّ، خصوصاً في ما تعلّق بمزامير داود أو نشيد الإنشاد ولغتها وعوالمها، كما هي الحال في قصائد مثل «معابد الشمسِ»، أو كما في «هدية من عشتار»، حيث نقرأ: «اغتسلي بالينابيعِ/ وغطِّي الحلمات بالزهورِ/ كي يخف الألم»، ثم في لغة طقوسية تقارب الإروسية «أخشى عليك من يدك/ أن تكتشف تضاريسك اللاهبة».
وإذا كان ثمة مناخ عامّ يضم قصائد المجموعة، فإننا نقع على الكثير من الأجواء والعناصر والمكوّنات لعالَم الشاعرة، بعيداً من السواد والسوداوية، بل في مواجهة هذين العالمين، تحتفي الشاعرة بكل ما هو جميل في الحياة. فنراها توغل في احتفائها بالحضارة السوريّة ومعالمها وملامحها أولاً وأساساً، وعبر رموز شهيرة ربما كانت أوغاريت أبرزها، لكنّ ثمة حضارات يتم الاحتفاء بها، فتحضر بلاد ما بين النهرين والأهرامات والنيل وسواها.
إنها ترى «الحياة خضراء»، وتكتب بحب عن «عشق دمشقي»، وتتداخل لديها الحضارات الثلاث في قصيدة «غريبةٌ على حافةِ نهرٍ»، حيث «لا شيءَ يومض في جوفي/ ليُدخلَني معابد الفراعنة/ ويستريح على كناية النيلِ/ غريبةٌ/ وفي وجهي شامةٌ من تمرِ العراقِ/ وفي عيني يغدق (دجلة)/ وحولَ حنيني يضيءُ قاموس أوغاريت».
تقتحم الشاعرة عوالمَ كثيرة، من بينها عالَم الأنثى، لتصوّر بتكثيف ثنائية «رجل/ امرأة» التي يجسدها بعضهم في ثنائية «أنوثة/ ذكورة». وعلى رغم الحضور الكثيف للمرأة في أحوالها المختلفة، خصوصاً في العلاقة مع «الذكر» المتمثّلة في رغبة الهيمنة والتهميش لها، وصور هذه الهيمنة، إلا أن الرجل المِثال هو الحلم، وليس الرجل الواقعيّ «الذكر الذي عذّب أُنثاي قتلتُه/ وأدخلتُ ذكر المستحيلِ إلى قلبي/ فهدأت إلى موعد آخر». وهنا تستعيد الشاعرة نساء التاريخ والأساطير «نامي كنعانيةً/ على تلال الخطيئة/ فالفردوس قضم ما تبقى له من خواءٍ/ ولا ينتظر إلا اليمام». وتعمل على تصعيد السؤال إلى فضائه الإنساني/ الكونيّ وهي تسأل «كيف لي أن أصير بشراً/ وأن أحتفظَ بالصدى/ وما عرفت نفسي؟».
وهي تربط هذه الصورة بصور الحرية، في المعنى الوجودي والفلسفي، أو بالمعنى الفنّي حتى، حين تستعير قصة النحّات مع «جالاتيا» التي صنعها ثم عشقها، وهو ما نلمسه في هذه الصورة التعبيرية الكثيفة «كانت تلهو مع العنبِ/ حين أغواها النحّات/ دخلَ حُلمَها/ كسر الإزميل ولم يعد/ ذات خطيئة/ غرست أظافرها بالحجرِ/ وتقمّصت لونَ النبيذ».
وتنطوي المجموعة الشعرية على صور من الحرب، أي حرب لا على التعيين، وصور الهجرة واللجوء في العموم، يمكن أن تحيل إلى راهن الحال السورية، ويمكن أن تحيل إلى أحوال إنسانية/ كونية، عبر تساؤل «من أيقظ الحرب! جماجم عظام أطفال/ وتاريخ عُجِن على مهل»، أو من خلال صورة الطفل مهيار و «بوح طفلٍ من عمرِ الحربِ/ رسم ماعزاً من خمسِ أقدام/ وصغاراً تدثروا بالحُلمِ/ قالَ: هذي أنت أُمي». أما المهاجرون فهم في بعض نصوص المجموعة فقدوا المعنى لأيّ شيء، وقد «أوغلوا جميعهم في الوصول/ وما بقي سوى عكّازِ أبي/ عالقاً على كتفي/ فما وصلنا بعد إلى معنى/ نحن من صنع الحدود/ ونحن من صدّق». وعلى كثرة ما تطرح المجموعة من أسئلة، من خلال جماليات خاصة في التصوير والتعبير، أسئلة لا يمكن تناولها بالتفصيل، فإنّ أسئلة الموت والحياة والحب والغضب والحرية هي جوهر ما يؤسس «رؤية» الشاعرة. الرؤية التي ترصد الخراب بعين، وترسل عينها الأخرى لترى الحب والجمال، فهي إذ تتساءل بألم «لِم كلّ هذا الرهان على مبضع الحرية/ لمَ كل هذا الدم؟»، فإننا نستطيع الشعور معها بأن ثمة دائماً «داليةُ أملٍ/ لانتهاءِ الألَم».

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى