الذهاب باتجاه المشاعر الإنسانية في ديوان ‘يوم قابيل’

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عبد الهادي روضي

في ديوان “يوم قابيل” الصادر ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية، يتوسل نوري الجراح المحكي الشِّعري، أسلوبا بغية ترجمة ما تلتقطه عينه الشاعرة، وتنفعل به هواجسه من مشاهد انفلات الوضع السياسي السوري، واحتدام الصراع الدموي بين أطرف النزاع السوري: الحكومة المستبدة بمصير وطن وأمة، والمعارضة المسلحة التواقة إلى ممارسة سياسية تلبس رداء الديمقراطية.

ولتحقيق ذلك يستدعي الشاعر منذ العنوان الرمز التاريخي، متمثلا في شخصية قابيل المتداولة في التاريخ العربي، حيث الصراع الدموي من أجل البقاء، بين قابيل وهابيل (وهما أخوان)، حيث الأول اشتغل عاملا للأرض، والثاني راعي غنم، اجتهدا معا لعبادة الله، فاختلفت طريقتهما في ذلك، إذ قدَّم قابيل من ثمار الأرض قرباناً للخالق، بينما قدم هابيل من أبكار غنمه، فأغتاظ قابيل جداً، والتهمت نيران الغيرة والحسد نفسيته، فقام بتصفية أخيه هابيل، لا لشيء سوى لأن الله تحاشى قربانه.

تلك حكاية القصة، لكن الشاعر نوري الجراح وهو يعيد استعادة توظيف قصة الأخوة هابيل وقابيل في سياق شعري مختلف، قام بتفريغ رمز قابيل من سياقه التاريخي والعقائدي الحقيقي، وجعله سوريًّا بامتياز، وبذلك تكتمل الدلالة الشعرية وفق مقصدية واضحة، ويصبح قابيل دالا على الإنسان السوري تحديدا، ذلك الإنسان المثخن بجراحات الصراع السياسي والوجودي، والذي يقاتل أخاه السوري في مشاهد دموية بالغة الانفعال والتأثر.

وبذلك، ينتقل الجراح بالدلالة الشعرية من سياق تجسيد الألم الفردي، حيث السوري يخرج مدججا برياح الحلم في التغيير، إلى ساحة الاقتتال، فيمـوت أو يسحل أو يصاب بعاهــــات مستدامة، أو يتشــرد رفقة أسرته في المنافي والملاجئ هنا وهناك، إلى سياق آخر وهو توصيف فظاعة العذاب الإنساني الممتد، وتوالي مسلسل طمس تطلعاته وأمانيه، بلغة شعرية تبتعد عن التقريرية والتوصيف والخطابة، وتحافظ على البعد الشعري للجملة الشعرية.

وفي الآن ذاته لا تكتفي بتحققها الواصف والأحادي التأويل، بل منفتحة على شرفات الشعر وروافده، تحبو وتتعلم باستمرار من حبوها المختلف مؤسسة فرادتها، وتوق شاعرها الملحاح إلى تكريس الانتماء لشجرة الشعر الكبرى من جهة، وتعزيز طقوس الإيمان الوطيدة بقصيدة النثر في أصولها وامتداداتها، منتصرا لموضوعة الألم في بعديه الفردي والجمعي، وممجِّداً النفس الغنائي الدرامي والتراجيدي، واضعا إيانا في النهاية أمام ملحمة شعرية متكاملة العناصر، تستعيد تفاصيل الجرح الإنساني، وامتداد فجوات القمع، واشتداد نيرانه وفوهاته، بل وتكتبه بلغة المتخيل المستمد من تفاعل الذاكرة والوجدان معا.

“من خاصرة الفرات إلى مغارة / الدم في كتف قاسيون / المركبات تفح، وتعبر (….) / الأمهات يهرعن بالصبية من حائط إلى حائط، ويخبئن العذراء/ في ركام الستائر”.

هي قصيدة نوري الجراح، كما يُقدِّمُها ديوان “يوم قابيل”، تقف على مسافة من الألم، تلتقطه وتتفاعل معه بحواس الشاعر والإنسان، ماضية نحو استعادة دفء مكان الولادة والامتداد الشعري والإنساني، وإقامة حوار شفاف مع الزمن وهو يمنح قابيل سلطة قمع إرادة شعب في تقرير إنسانيته ووجوده، عبر متخيل مضمخ بالدهشة والإدانة والاستفهام:

“دم من هذا الذي يجري في قصيدتك أيها الشاعر؟ / عمياء قصيدتك / وصوتك أعمى / لكنَّ الهواء يهدهد السهل والعشب يهمس للقتيل”.

إن العمى يحمل دلالة فقدان الخيط الناظم للإمساك بمجريات الدم، الممتد مــن الفرات إلى أرض سوريا، ولأن الصور تتشابه، وكذلك مصائر الشخوص والطبيعة، فإن الشاعر يظل الوحيد القادر على رصد احتمالات الموت الدال الأكبر المهيمن على الديوان كله، إذ لا يكاد يخلو شعري من مفردة من المفردات الدالة على الموت، الموت اللاإرادي، والخطأ الفادح المتعمد الذي يلجأ إليه الطرف الأقوى، والموت الأرضي المحايث الذي( يقف ضد تيار الحياة لأنه موت يمارسه إنسان ضد إنسان بعدوانية سادية ومازوشية أحيانا، يمارسه ند باتجاه ند من المفروض أن يساعده في ممارسة الحياة وعيشها: إنه الموت مجازا والقتل والإماتة حقيقة، والإجهاض لإرادة الطرف الضعيف ورغبة في الحياة.

وتأسيسا على كل ما سبق، يعكس ديوان “يوم قابيل” للشاعر نوري الجراح تحولات الشعرية العربية الراهنة، وهي تواصل بعنفوان الشعر اختبار مجاهل قصيدة النثر الجمالية، مراهنة على الإنصات العميق لنبض الذات الشاعرة، في تعالقاتها مع محيطها.

بالإضافة إلى ذلك، لا تقف قصيدة الجراح عند حدود متحقق اللغة الشعرية ومعاييرها الصارمة، ولا تجتر موضوعات القصيدة العربية المتهالكة، بل تذهب بعيدا باتجاه نهر الأعماق الإنسانية، عاكسة قلق الإنسان، ومكونات الطبيعة من جبروت الإنسان ذاته، حيث يمتد صوت الرصاص، وتتطاول أيادي اللصوص، وتغتصب العذارى، ويُقَتَّل الأطفالُ، ويُهجّرُ البعض هربا من رحمة القصف.

ولذلك، تبقى تجربة نوري الجراح الشعرية رائدة في استثمار بعض معطيات الموروث الشعري العربي القديم، كالرمز الذي يحضر بكثافة ضمن نصوص الديوان، لكن الجراح لا يستدعي الرمز مجانيا، بل غالبا ما يلتجئ إلى إفراغه من حمولته التاريخية، ويعيد شحنه بدلالات نفسية ووجودية يمليها وعي الذات الشاعرة باللغة وحمولتها الحقيقية والضمنية.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى