الفنون والطفل: سبعون أيقونة تشكيلية تجتمع في باريس

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

أبو بكر العيادي

يضم معرض “الفنون والطفل” المقام حاليا في متحف “مارموتان مونيه” بالعاصمة الفرنسية بباريس خمسا وسبعين لوحة، وهو ثمرة تعاون بين مؤرخين ومؤرخي فن سعوا لأول مرة إلى تبيّن وضع الطفل عبر التاريخ، وتسليط نظرة جديدة على الأعمال المعروضة لمقاربة الفن من زاوية مغايرة.
يفتتح المعرض بلوحة “تقديم في المعبد” التي تُنسَب إلى أندريه بونفو وجان دو لييج، وتعكس طغيان صور ما يسميه المسيحيون “الطفل الربّ”، أي المسيح طفلا في فن الأيقونات حتى نهاية العصر الوسيط، ذلك أن الطفل كان موضع ريبة، فالمسيحية كانت تنظر إليه على أنه، بوصفه ابن آدم، حمّال لخطيئة البدء، وكان إذا مات لا يدفن إلاّ بعد أن يظل جثمانه معروضا على هيكل في محراب استراحة، ريثما ينظر في أمر تعميده.

ظلت تلك النظرة السلبية إلى الطفل قائمة في القرن السادس عشر، حتى لدى الكتاب، لا يستثنى منهم غير إيراسموس ورابليه، ولكنه بدأ يسجل حضوره في الفن من خلال بورتريهات الملوك والأمراء، حيث ظهرت صورة الطفل ملكا، كاللوحات التي تمثل ابنَيْ آن ملكة النمسا، أو لويس الرابع عشر وأخيه فيليب دو فرانس صحبة أمهما وهما في جلباب الطفولة، وهو لباس يلبسه الذكور والإناث على حدّ سواء حتى سنّ الخامسة، وكذلك فرنسوا الثاني طفلا لليونار ليموزان، ولويز ماري آن دو بوربون، آنسة تور، لبيير مينيار.

وإذا كانت بورتريهات هؤلاء، المنذورةُ للاستعمال الشخصي، تتميز بنوع من العفوية، فإن البورتريهات الرسمية تُظهر أبناء الملوك في ثياب رسمية على مقاسهم بأوسمة السلطة وصولجاناتها، قبل أن تنشأ في القرن السابع عشر موضة رسوم أسَرية عمّت الطبقة الأرستقراطية، يتبدى خلالها الطفل في هيئة وريث ورمز لتواصل السلالة، نجد ذلك مثلا في لوحة أسرة هابير دو مونتمور لفيليب دو شمباني.

وإذا كانت الأسر الفقيرة لا تستطيع أن يكون لها أو لأبنائها مثل هذا الامتياز، فإن بعض الفنانين، مثل الأخوين لونان، رسموا لوحات لأبناء الأرياف والقرى بأسمالهم البالية وخدودهم المتوردة.

في عصر الأنوار تغيرت النظرة إلى الطفل، وصار يُنظر إليه كرمز للبراءة، يقول فولتير “اجمعوا كل أطفال العالم، لن تروا فيهم سوى البراءة واللطف والخشية”. فقد مهّد فلاسفة الأنوار لعصر جديد، صار فيه الطفل محل اهتمام سياسي وأخلاقي واجتماعي، رافقه تطور ملحوظ في ميدان الطبّ كان له دور كبير في الحد من نسبة وفيات الأطفال، وبرز ذلك جليا في أعمال تظهر الطفل وهو جنين في بطن أمه، كما في لوحة “الأم الحامل” لغوتييه داغوتي، و”الأم المرضِع” خصوصا بعد كتابات روسو حول أهمية إرضاع الأمِّ طفلَها، وأهمية حنانها في تنشئته إنسانا سويّا.

ومنذ ذلك التاريخ انتصر الشعور العائلي وتبدى في لوحات نرى فيها الآباء والأمهات وهم يعانقون أبناءهم. عندئذ صار الطفل كائنا بذاته، وموضوعا فنيا، وصار الفنانون يرسمونه وحده، فيبدو لاهيا، كما في لوحة جان سيميون شاردان “الطفل بالدوّامة” أو حالما كما في لوحة “الطفل الصغير” لجان باتيست غروز، أو بصدد الدراسة كما في لوحة “طفل يحفظ الأصول” لآن لويس جيروديه.

بحلول القرن التاسع عشر سطع حضور الطفل في الفنون، يتجلى ذلك مثلا في اللوحات الواقعية لجان فرنسوا ميليه كـ”الزّقّة” و”حيطة أمّ” و”درس حبك النسيج” التي غدت من أيقونات فرنسا الريفية. وفي المقابل، مال آخرون إلى أطفال المدن، ويتبدى ذلك مثلا في لوحة رونوار “جان وجنفييف” ابن صديقه كايبوط وابنته، وفي “الطفل في حوض الرمل” لبيير بونّار.

ولم يتخلف الأطفال عن الحضور حتى في أحلك الظروف التي مرت بها فرنسا، كحربها ضدّ بروسيا عام 1871، كما في لوحة “الوطنيون الصغار” لفيليب أوغست جانرون، أو لوحة “نافخ البوق” لإيفا غونزاليز، حيث يقف الصغار بشجاعة للذود عن حمى وطنهم.

ولما كانت تلك الفترة قد شهدت أيضا ثورة صناعية، فإن المصانع لم تكن تجد حرجا في استغلال الأطفال، بل إن قانون 1841 صدر ليحرّم تشغيل أطفال دون سن الثامنة، ويبيح ما فوق ذلك. وهو ما أثار حفيظة الفنانين، كجول باستيان لوباج وفرنان بيليز اللذين أدانا تشغيل الأطفال، فيما كان الانطباعيون يهتمون بطفولة بورجوازية ومَصونة من ذلك الاستغلال، ويقدمون شهادات عن ظهور أسرة عصرية.

ويقدم المعرض أيضا تأثير رسم الطفل في الفن في فجر القرن العشرين، من خلال مسودات لمونيه وبيسّارو ورسوم لموريس دونيس وجان لورسا تعرض لأول مرة، وتبين كيف أن الخلق الطفولي ترك بصمته على تجارب الحركات الطليعية الباحثة عن لغة جديدة، من ماتيس وبيكاسو إلى كوبرا وكاريل آبيل.

 

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى