عقلنة التراث

الجسرة الثقافية الالكترونية

احمد زين الدين

ليس بوسع المرء الإحاطة بمجمل ما كتبه الراحل جورج طرابيشي الموسوعي والعقلاني التنويري الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته وترجماته. فهذا الكاتب والمفكر الطليعي لم يقف عند حد، بل انتقل من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، ليتوّج مسيرة حياته بالعمارة الفكرية «نقد نقد العقل العربي» في مواجهة العمارة الأخرى الرباعية التي بناها المفكر المغربي محمد عابد الجابري «بنية العقل العربي» و «تكوين العقل العربي» و «العقل السياسي العربي» و «العقل الأخلاقي العربي». وأسهم من قبل في كتابة مصنفات في النقد الروائي والنقد السياسي والفكر الديني، التي لا يمكن وضعها في سوية واحدة، أو أن نحصرها ونحدها بموضوع أو ميدان من الميادين. فهو الناقد والمفكر والمترجم (ترجم ما يربو على مئتي كتاب، ثلاثون منها لفرويد) وهو الماركسي والقومي والليبرالي والعلماني، ومن مؤسسي رابطة العقلانيين العرب. دون أن ننسى سجالاته مع المثقفين العرب حول التراث والحداثة، ولا سيما نقضه لأطروحة الجابري. وهي الطفرة العقلية الهامة في إنتاجه التي أعادتنا إلى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. بيد انه كان في كل مرحلة أو خطوة كاتباً ومثقفاً عصامياً، إذا جازت العبارة، فهو يكتب ويناقش ويحاور بعد أن يتعلم ويستفيد ممن يجادله أو يترجم له. وهو يستوعب بعمق الموضوع الذي يقاربه بأدوات وأساليب نقدية تتجدد وتتلوّن باختلاف الموضوعات المطروحة وإمكانياتها. لذا أعقبت ترجماته الفرويدية الغزيرة والأساسية في التحليل النفسي، توظيفه لها في تفسير النصوص السردية، كثمرة من ثمار ترجماته حتى يضيء على الأبعاد السيكولوجية والحضارية لهذه الروايات. وحتى يتمكن من تحليل أمراض بعض المثقفين العرب الذين اتهمهم في كتابه «المرض بالغرب…» بأنهم يعانون من عوارض عُصابية محتذياً فيه المنهجية التحليلية النفسية.
واضطُر للرد على شبهات محمد عابد الجابري أن يكرّس أعواماً طويلة من عمره للاطلاع على أعداد هائلة من أمهات الكتب مدققاً ومتفحصاً ومستقرئاً. إذ كان من المفترض أن يقرأ ما قرأه الجابري، أو صرّح أو لم يصرّح به، أي التراث اليوناني والأوروبي الفلسفي والعقلي في طوريه الكلاسيكي والحديث، علاوة على التراث العربي الإسلامي الفلسفي، ليكون نقداً للجابري، وتفنيداً لأحكامه، وتمحيصاً لشواهده، واكتشاف العسف والتزوير والغلط في الأحكام المبنية عليه، وتفكيك الإشكاليات نفسها قبل مناقشة نتائجها. وقد أفضت هذه الحركة العقلية الدينامكية إلى بناء مداميك عمارته الفكرية المضادة للعمارة الجابرية، رغم إقراره بفضل الجابري الذي نقله من الإيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا، أي من الأفكار إلى علم معرفة المعرفة. كما دفعه عن غير قصد إلى إعادة بناء ثقافته التراثية.
دار الحوار الفكري من طرف وحيد هو من طرف طرابيشي. وكان من المنطقي أن يرد الجابري على مشروع طرابيشي النقيض، لكنه تغاضى عنه، وصمت دون أن يعلّق بكلمة، إما استعلاء، أو إقراراً ضمنياً بقصوره، أو لحزازات شخصية دفينة، ونُمي أنه اتهم طرابيشي بعدم جدارته بالكتابة عن التراث الإسلامي لأنه مسيحي!! وفي كل الأحوال كان حظ المتلقي العربي أن يقرأ في المشروعين تأصيلاً نظرياً راقياً. وإن كان يمنّي النفس بحوار مجد بين الاثنين تعثّر نصابه، وسماه طرابيشي حواراً بلا حوار. لكن الجابري أكمله مع المفكرين علي حرب وفتحي التريكي.

هاجس الحداثة
ينتقد طرابيشي الأسس النظرية التي قامت عليها كتب محمد عابد الجابري، لا سيما كتابيه «تكوين العقل العربي» و «بنية العقل العربي» الذي اشتغل عليهما وفككهما، وأظهر تناقضهما، واتهم خصمه بأنه في تقسيماته النظرية للعقل الإسلامي العربي وتعداد مستوياته المعرفية والايديولوجية والجغرافية، إنما اعتمد على الفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند في تفريقه بين العقل المكوّن (بكسر الواو) والعقل المكوّن (بفتح الواو) من دون ان يرجع مباشرة إلى كتابه «العقل والمعايير» بل رجع إلى معجم بول فوكيه، فأخطأ في الترجمة وفي الشاهد، وأضاف غموضاً عليه. وعدم اطلاعه الكافي على الوظيفة التوحيدية للعقل ككل عند لالاند، جعله يتبنى هذه التقسيمات العقلية التي أفضت إلى تحلل العقل العربي وتجزئته إلى مكونات متناقضة. كذلك أخطأ الجابري في استخدامه البنية اللاشعورية التي استعملها ليفي ستروس في دراسة المجتمعات البدائية الشفهية، حين طبق هذا المفهوم على مجتمع متقدم مثل المجتمع العربي الإسلامي.
ومن مآخذ طرابيشي على الجابري أنه رفع مكانة الحضارة اليونانية على كل ما عداها من حضارات عقلية منتجة لمنطق ما قبل أرسطي، مثل الحضارات الهندية والفينقية والصينية. في حين أن العقل الهلليني لم يكن عقلاً خالصاً، بل كان اليونانيون يمارسون أيضاً الشعوذة والسحر ويصنعون التمائم، أي كل ما يُنسب إلى دائرة اللامعقول. كما يقتبس الجابري مفهوم عصر التدوين من أحمد أمين في «ضحى الإسلام» من دون أن يسميه.
حمل طرابيشي في كتاباته وسجالاته جميعاً هاجس الحداثة وعلاقتها بالموروث، ورفض كل حديث عن الإصلاح السياسي مع الإبقاء على المنظومة المعرفية القديمة والمفاهيم التقليدية. ووصف حركة الإصلاح المزعومة بالنقش على الماء. وأخذ على الذين تناولوا التراث بأنهم قاربوه بطريقة انتقائية ومنفصلة عن سياقه التاريخي والاجتماعي. واعتبر أزمة العقل العربي من داخله لا من خارجه، وتحوّله إلى عقل غير قادر على نقد ذاته. لذا كان الانفتاح على الحداثة هو الذي مكّن من طرح أسئلة جديدة على التراث واستنطاقه، ومن أن يعيد صياغته في إشكاليات جديدة. وإذا كانت ثقافتنا هي الانغلاق على مفاهيم العصور السابقة، فإنها كانت فعالة آنذاك، لكنها اليوم معطّلة يهيمن عليها الخرافي والأسطوري والحدسي بدل الرؤية العقلية المنطقية.
وطرابيشي لا يأخذ بمقولة الديموقراطية كجوهر مستقل، لا سيما إذا ما اختُصرت بصندوق الاقتراع، واعتُبرت بمثابة خلاص نهائي وحاسم، أو اقتصرت على السياسة دون الفكر أو الدين. وقبل ان تكون الديموقراطية مفتاحاً للنقلة من واقع التخلف والتأخر إلى واقع التقدم، يجب أن تتمتع في نظره بشرط لتحقيقها وديمومتها، هو شرط وجود الحامل الاجتماعي للديموقراطية، وهو الأكثر غياباً عن الوعي العربي.

الإنسان الآلي
في كتابه من «النهضة إلى الردة» دعا طرابيشي المفكرين الحداثويين إلى ضرورة التخلي عن استراتيجية البحث عن البدائل الفكرية، والتوجّه إلى آليات العمل. والعرب في رأيه يعانون من تبعات رهاناتهم الخاسرة على كل جبهة. ففي مطلع الخمسينيات كان التقدم يقتضي منا التحرر من الاستعمار فحسب. فكان رهاننا التخلص من الاستعمار لتحقيق النهضة المنشودة. ثم وقعت رهانات جديدة مثل الوحدة العربية، ثم سقوط الوحدة، والرهان على الاشتراكية التي كشفت عن خيبة أمل كبيرة. وآخر رهاناتنا اليوم على الديموقراطية كباب للخلاص والنجاة، ويُخشى ان يكون رهاننا خاسراً بدوره، لأن الديموقراطية هي تحوّل في عقلية المجتمع، وليست في عدد الأصوات الناخبة. وجاء الرهان على الإسلام السياسي نتيجة إخفاق هذه البدائل. والإسلام ليس حلاً قبل أن نغير نظرتنا إليه، كما غيرت أوروبا نظرتها الى الدين وأحدثت الإصلاح الديني. فهذا الإسلام الموروث منذ عصر الانحطاط أفرز ظواهر تعصب، وتيارات عنفية مثل طالبان وداعش وسواهما. بينما ما نحتاجه اليوم هو إسلام حديث منفتح على العصر آخذ بمقاييسه وأدواته، قادر على نقد تجربته الماضية على ضوء حاجات المستقبل. ولدينا شاهد من التاريخ الحديث بأن الانفتاح هو المعبر إلى التقدم. فالحضارة الغربية المعاصرة باتت اليوم حضارة متفوقة بعدما غيرت نظرتها إلى الدين ودوره. بل هي الحضارة العالمية الوحيدة في العالم مطلقاً، بعدما شهدت عملية تحوّل هائل انتصر فيها الانسان الصانع الدنيوي على الانسان الساحر الديني.
في كتابه «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» يعتقد طرابيشي ان تغييب الإسلام القرآني وتغييب العقل وتغييب التعددية في الإيديولوجيا الحديثية المنتصرة التي أتاح لها تأطيرها الإلهي، أن تهيمن على الفضاء العربي الإسلامي، وأن تتحوّل إلى نص مقدس إلى جانب النص القرآني. يعتقد أنها المسؤولة الأولى عن أفول العقلانية العربية الإسلامية، وما استتبعه من انغلاق ذهني وحضاري أنهى العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ومن حروب طائفية ومذهبية متأججة. وقد تمخّض التدامج بين الحديث والفقه عن تسييد ايديولوجيا شمولية تتدخل في الجزئيات كما في الكليات، وفي الحياة الخاصة كما في الحياة العامة، حيث تحوّل المسلم «المكلّف» حسب العبارة الفقهية إلى إنسان آلي.
في «هرطقات» سيعرض بإسهاب إشكالية الصراع بين السنة والشيعة، بعد ما رأى ما حدث في العراق من احتراب مذهبي غداة رحيل القوات الاميركية عنه.

البؤس الطائفي
ويجد طرابيشي أن هذا ناجم عن بؤس الفكر الديني الذي ينتشر ويسود في صفوف شرائح شعبية كثيرة أوصلته إلى حرب قولية بين المذهبين، وهو الذي مهّد لهذه الصراعات الدامية، وتحوّل بعامل التراكم الزمني إلى حرب تصاعدية. وقد لعبت كتابات ابن تيمية دوراً خطيراً في التعبئة النيووهابية ضد الشيعة، لا سيما في كتابه «منهاج السنة». وفي تأسيس سلفية جديدة تميّزت بمنزع جهادي متجه إلى الداخل لا إلى الخارج، أي إلى الإسلام المخالف. وأسهم في انبعاث الفتاوى الاستئصالية نشوب الحرب العثمانية ـ الصفوية.
ووجد طرابيشي بعد استعراضه لمؤلفات تراثية عند السنة والشيعة انها تكفّر بعضها البعض. وبحسب رأيه فإن النصوص المرقونة على شبكة الانترنت حالياً جاءت لخدمة السياسات والأهداف الايديولوجية الطائفية، حيث يخوض الطرفان ما يسميه «حرب شوارع إلكترونية حقيقية». وعلى هذا النحو فإن ثقافة الفتنة غدت مباحة لأي كان.
وكان من أهداف العرض التاريخي المطوّل للاجتهادات والأحكام المضادة ان استدلّ طرابيشي على ان الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي. بل هي راسخة وقديمة قدم الإسلام نفسه، وهي ثابتة من ثوابته. فكيف السبيل الى عقلنة الصراع. والعقلنة مفهوم يحرص عليه طرابيشي باعتباره المسار الإلزامي لعبورنا إلى العصر الحديث والرؤية الحديثة للإنسان والدين. لذلك يدعو طرابيشي إلى بيداغوجيا طويلة النفس تقوم على علمنة المجتمع وإعادة تربية ذاته، وقبوله بشرعية تعدد الأديان والطوائف. وإعادة اكتشاف العلمانية وتطويرها بما يتناسب وتكييفها مع الظروف العربية الاسلامية. وإذا كانت العلمانية في الغرب قامت على أساس التحييد الديني للدولة، فإن العلمانية في المجال العربي الإسلامي لا بد أن تقوم على التحييد الطائفي والمذهبي للدين نفسه في النفوس والعقول والمؤسسات، قبل أن تتعلمن الدولة.

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى