الحبّة الصغيرة والقبّة الكبيرة: بين دروز بلغراد والساعة الخامسة والعشرون

*د. يوسف حمدان

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

المقاربات المتشابهة للموضوع الواحد في الأعمال الأدبيّة المختلفة لا تعني بالضرورة الوقوع في دائرة التأثّر والتأثير، ذلك أنّ القدرة الإبداعيّة تنتج توازنات وتقاطعات تستجيب لها الحساسيّة الفنية حيثما وُجد الفن. وحتى عندما يتأثر أديب بآخر أو بعمل أدبيّ معيّن، فإن الأديب الواقع في دائرة التأثر، إن كان يعي خطورة هذه الفكرة على قيمة الإبداع، يولي أهميّة قصوى لإخفاء مرجعه ومصدر التأثير فيه؛ لأنّ ذلك هو الوسيلة لإثبات ميزته وقدرته في الإبداع الفنيّ، الأمر الذي يصفه الناقد الأمريكي هارولد بلوم (Harold Bloom) بـ “التكتّم الشعريّ”. وفي المقابليبقى بعض الأدباء أسرى للرؤية الأولى وللشكل الذي عرفوه من قبل في أعمال سابقة، وهذا يجعل أعمالهم استنساخا لأعمال الآخرين وفاقدة للأصالة.
في بحث أكاديميّ مقبول للنشر في مجلّة دراسات/الجامعة الأردنيّة بتاريخ 20/12/2015 تتبعت التشابهات بين رواية “دروز بلغراد” للروائيّ اللبنانيّ ربيع جابر، الحاصلة على جائزة البوكر العربيّة عام 2012، ورواية “الساعة الخامسة والعشرون” للروائيّ الرومانيّ قسطنطين جورجيو التي كُتبت عام 1949 وتُرجمت إلى العربيّة عام 1964، وأظهر البحث أنّ “دروز بلغراد” متأثّرة إلى حدّ بعيد برواية “الساعة الخامسة والعشرون”.
ويشمل هذا التأثّر بنية الحكاية في مفاصلها الرئيسيّة وتفاصيلها، حيث يتبيّن من خلال المقارنة بين الروايتين أنّ الحدث الذي تنطلقان منه هو الوقوع في الاعتقال نتيجة لحيلة وخدعة قائمة على تغيير في هوية إيوهان موريتز وحنا يعقوب، الأمر الذي يتسبب في الروايتينبرحلة طويلة في سجون وبلدان عديدة، وفي عذاب مرير لا يتوقف، وتسخير في عمل مجاني يظهر خلاله المساجين فاقدين لكلّ الظروف والإرادة الإنسانيّة، وهو ما يستمر إلى حدّ يُفقدهم الأمل في الخلاص والنجاة. وعلى مستوى التفاصيل، تتشابه كثير من تفاصيل حياة إيوهان موريتز وحنا يعقوب وظروفهما، كما تتشابه الصور والمشاهد التفصيليّة للسجون والتعذيب والتجويع في الروايتين.
بالإضافة إلى ذلك، الرؤية المقدّمة في الروايتين متشابهة إلى حدّ كبير، وهي رؤية سلبية تجاه الحياة الحديثة، حيث تشوّه الحروب والتمييز العرقيّ والدينيّ وسيطرة الفكر الآليّ على الهويّة الإنسانيّة، وصار يُنظر إلى الإنسان على أنّه رقمٌ مجرّدٌ من الميول والأبعاد الذاتية والإرادة. ويواجه كلّ من إيوهان موريتز في “الساعة الخامسة والعشرون” وحنا يعقوب في “دروز بلغراد” أزمة متماثلة في السجن تتعلق بهويتهما الفرديّة، فموريتز مسيحيّ معتقل على أنّه يهوديّ، وحنا مسيحيّ معتقل على أنّه درزيّ، ويتمثّل أملهما الوحيد في إثبات هويتهما الأصليّة؛ أي اختلافهما عن المساجين الآخرين. هذا الأمر يخلق مواجهة قائمة على الهوية بين موريتز واليهود، وحنا والدروز، إلا أنّ ما يتعرضون له جميعا من عذاب وظروف غير إنسانيّة ينفي هذه المواجهة والخلاف، وكأنّهم يعيدون اكتشاف هيوتهم الإنسانيّة.
تماثلات حكاية “الساعة الخامسة والعشرون” و”دروز بلغراد”
ولإبراز التقاطع والتماثل بين الروايتن، سأتتبع فيما يلي التشابهات فيالبنية الحكائية في الروايتين عبرالمراحل المختلفة من تطورها، وهو ما سيظهر تباعا في ثلاثة محاور: الاعتقال، رحلة السجن، النهاية.
الاعتقال
يوجّه الوقوع في الاعتقال مسار الحكاية في الروايتين، ويحدث هذا الاعتقال إثر حيلة وخداع يتعرّض له إيوهان موريتز في “الساعة الخامسة والعشرون” وحنّا يعقوب في “دروز بلغراد”. وتقوم هذه الحيلة بشكل أساسيّ على تغيير في هويتهما، فرئيس مخفر فانتانا يعقد العزم على التخلّص من موريتز ليتمكّن من زوجته التي تمنّعت عليه، فيعتقله باعتباره شخصا غير مرغوب فيه، بموجب صلاحيّاته التي تتيح له اعتقال اليهود والأشخاص غير المرغوب فيهم. لكنّ موريتز يُسجّل خطأ في قيادة الدرك في سجّلات اليهود على أنّه يهوديّ (جورجيو، 2015، ص 112). حنّا يعقوب المسيحيّ يواجه مصيرا مشابها تماما، حيث يعتقله أحد المسؤولين العثمانيين بدلا من درزيّ محكوم بالسجن والنفي مع خمسمئة وخمسين آخرين إلى بلغراد، وكان الحاكم العثمانيّ قد قبل شفاعة ورشوة من والد ذلك الدرزي الذي بقي له أربعة أبناء آخرين بين المنفيين لم يتمكّن من إطلاق سراحهم. يجد المسؤول العمثانيّ خلاصه من نقص العدد قبيل وصول القنصل الفرنسيّ الذي يُشرف على ترحيل الدروز في أخذ المسيحيّ حنّا يعقوب بائع البيض، حيث كان يمرّ قريبا من الشاطئ، ويجد نفسه يُندى عليه في لباس المعتقلين ويُنادى عليه باسم الدرزي الطليق “سليمان غفار عز الدين”، دون أيّة فرص للخروج من الاعتقال لسنوات طويلة.
حادثة الاعتقال هذه هي المدخل في الروايتين الذي تُبنى عليه الأحداث، وما يقع بعدها من تبعاتها ونتائجها، والكيد والظلم فيها هو الأساس الذي تقوم عليه وجهة نظر الروايتين تجاه العالم الفاقد لقيم الإنسانيّة. وتلعب كذلك قضية التغيير في هويّة موريتز وحنا يعقوب دورا هامّا في الكشف عن وجهة النظر المقدّمة في الروايتين، حيث يقع التمييز على أساس الهويّة الدينيّة والعرقيّة والقوميّة، وعليها يقوم تحديد الأعداء والأحلاف. وفي الحالتين، تُفتقد الإرادة الإنسانيّة من جميع الأطراف، فلا يمتلك أيّ طرف القدرة على تقرير مصيره ولا تحديد أهدافه.
ولا يقتصر التشابه بين الروايتين على أصل الحكاية فقط، وإنما يصل الأمر إلى جلّ التفاصيل المحيطة بالأحداث، فموريتز كان له زوجة وابنتان وقت اعتقاله ويظل متعلّقا بهنّ مشتاقا إليهنّ كلّ فترة اعتقاله، وكان قد اعتُقل وهو في المراحل الأخيرة من تجهيز بيته، وكذلك كانت له علاقة بقسّ، الأب ألكساندرو كوروغا، يمثّل الدين الصالح غير القادر على إنقاذ الناس، وتلجأ إليه زوجة موريتز بعد اعتقاله ليجد لها زوجها دون جدوى. لا تختلف هذه التفاصيل كثيرا في “دروز بلغراد”، فقد اعتقل حنا وهو في الطور الأخير من إعداد بيته، وكانت له زوجة وابنة واحدة يظلّ في شوق إليهما طوال فترة اعتقاله، وتلجأ زوجته إلى الأبّ بطرس ليجد لها زوجها دون فائدة من ذلك.
وعلى الرغم من التشابه في هذه التفاصيل، إلا أنّ مستوى التوظيف لها يختلف بين الروايتين، حيث تأتي بعض تلك الأحداث أقلّ عمقا والتحاما بالرؤية الكليّة للرواية في “دروز بلغراد”، بالمقارنة مع “الساعة الخامسة والعشرون”. فعلى سبيل المثال، يظهر رجل الدين في الروايتين عاجزا عن إنقاذ الضحية وتغيير ما يحدث للمجتمع والعالم، وهو في “الساعة الخامسة والعشرون” منخرط بعمق بتفاصيل الرواية ويتوازى مع مكوّنات المجتمع كافة، بشكل خاص مع صورة المثقف العاجز عن تغيير ما يحدث في المجتمع على المستوى الفرديّ والجمعيّ. فالأب كوروغا يشارك في الأحداث بشكل فاعل منذ اللحظة الأولى، وهو مؤثر بشكل كبير على موريتز الذي يمثّل محورا رئيسيّا في الرواية، فقد ساعده على الزواج بسوزانا بعد هروبها من بيت أبيها، وأعطى ابنُه الكاتبُ تريانُ موريتزَ المالَ اللازم لبناء بيته. الأمر الأكثر أهميّة أن القس كوروغا يدخل في حوارات عديدة مع المسؤولين الرومانيين يَظهَر فيها، من ناحية، وعيُه للمشكلة الحضاريّة وحجمها، ومن ناحية أخرى، ضعفُه أمام المؤسسة القانونيّة التي تملك التبرير لكل ما تقوم به. ففي واحد من حواراته مع المسؤولين، يقول للمحافظ تبريرا لبحثه عن موريتز: “إن العمل لخير الإنسان والعدالة هو بنفس الوقت عمل من أجل الكنيسة ومن أجل الله. فأنا إذ أتدخّل لصالح إيوهان موريتز، إنما أتدخل لصالح الكنيسة والله. وهذه هي مهمتي كقس. إن ما وقع لإيوهان موريتز غير عادل.” فيجيبه المحافظ قائلا: “لا وجود للعسف والظلم إلا في مخيلتك. إننا في حالة حرب…” (جورجيو، 2015، ص 102).
لا تستطيع المؤسسة القانونيّة أن تفهم معنى العدل إلا وفق تطبيق النصّ القانونيّ بغض النظر عن عدالة النصّ نفسه، ويشترك مع رجال الدين في العجز عن بيان ذلك المثقّفون وأصحاب الوعي، كما هو حال تريان كوروغا. فعلى سبيل المثال، يظهر تريان في حوار مع وزير الحربيّة الروماني الذي كان يظن أنّ تريان يتوسط لموريتز لأنه يعمل مع أبيه، فيقول له تريان: “إنّ تدخّلي في الموضوع ليس إلا عملا إنسانيّا، إنّه عمل مجانيّ!” يأخذ الوزير كلمة “مجاني” في بعدها الماديّ، فيظنّ أنّ تريان منزعج من ذلك، فيردّ الوزير: “إنني أنا الآخر مرغم على التصرّف مثلك. فغالبا ما أتردد على الريف لأبارك أشخاصا أو أزوجهم. واليوم نحن مرغمون على سلوك كلّ السبل الممكنة مع هؤلاء القرويين لنجعلهم يعملون بحماس. ينبغي أن نجعلهم أبدا يتخيّلون أننا أصدقاؤهم، حتى لو اقتضى هذا الأمر الجلوس معهم على مائدة طعام واحدة. إنني أفهم تماما ما تريد قوله. إنّ أباك اليوم في مثل هذا الموقف الذي أشرحه لك” (جورجيو، 2015، ص 134-135).
بذلك، فإنّ موقف القس كوروغا من موريتز جزء من موقف مركّب يشترك فيه رجال الدين والثقافة والوعي، وهو موقف ممتدّ عبر مراحل طويلة من الأحداث؛ فكل من الكاتب تريان وأبيه القس كوروغا يصبح ضحية للخطر الذي حاولا دفعه عن موريتز والمجتمع عموما، حيث يقعان في الاعتقال ويتعرضان للتعذيب والقتل. على العكس من ذلك، يظهر موقف الأب بطرس غير مندمج في نسيج الأحداث، وخاليا من العمق والتركيب؛ إذ يظهر متعاطفا مع حنا وزوجته، دون انخراطه في عمل له علاقة بالظلم العام الذي يحلّ في المجتمع، ودون عرض صورته النفسيّة والأخلاقيّة بشكل متكامل، باستثناء عبارة واحدة قالها وهو يبحث عن حنا مع زوجته وقد تعرّض لها أحد الجنود، فقال الأب بطرس: “الربّ يرحم الخطاة وينقذنا من مصير سدوم وعمورة” (جابر، 2015، ص 64-65).
رحلة السجن
يستمر تماثل الأحداث بعد الاعتقال في الروايتين، على مستوى الإطار الكلّي للأحداث، وعلى مستوى التفاصيل. فالإطار الكليّ يبرز من خلال رحلة السجن بين دول عديدة، يخضع فيها المساجين في الروايتين للتعذيب والتجويعولظروف غير إنسانيّة،ويُسخّرون للعمل مجانا. وتقسم الأحداث في الرواية إلى مسارين رئيسيين: الأول صورة الشخصيّة المحوريّة في السجن؛ موريتز وحنا، والثاني عملية البحث عنهما واستعانة زوجتيهما بكلّ من يستطيعان الوصول إليه، لا سيّما رجال الدين كما ذكر آنفا. ويظهر المستوى الثاني في “الساعة الخامسة والعشرون” أكثر تركيبا، ويلعب دورا أكثر أهميّة منه في “دروز بلغراد”، حيث يظهر المستويان فيها منفصلين، ولا تشارك شخصيّاتها في المستوى الثاني فيما يحدث في السجن إلا على مستوى تذكّر حنّا لزوجته وابنته وشوقه لهما ولبيته. على العكس من ذلك، يتداخل المستويان بشكل كبير في “الساعة الخامسة والعشرون”، فما يحدث لموريتز في السجن هو من كتابة تريان كوروغا وتجسيد لرؤيته عن الحضارة الحديثة. ويقع تريان نفسه وزوجته وأبوه القس ألكسندر في الاعتقال، ويعانون من الأنظمة نفسها التي يعاني منها موريتز، ويلتقون أيضا في أحد السجون في ألمانيا تحت سيطرة أمريكا ثم القوات السوفييتية (جورجيو، 2015، ص 375).
وفيما يتعلّق بتماثل التفاصيل في الروايتين، يأتي هذا التماثل من خلال الصور المرعبة للسجن والتعذيب فيه، وطرق نقل المساجين مشيا لمسافات بعيدة أو في العربات الضيّقة، والسجون القذرة، فمن الممكن أن تحلّ بعض هذه المشاهد في الروايتين مكان الأخرى دون اختلاف كبير. ويمكن التدليل على ذلك من خلال مشهد معاناة المساجين من القمل الذي ظهر على أجسادهم بطرق تصعب مقاومتها، نتيجة للظروف القذرة التي وضعوا فيها. فالسجناء في “الساعة الخامسة والعشرون” حين نُقلوا بالعربات إلى الحدود الرومانيّة الهنجاريّة لم ينقلوا معهم “غير القمل الذي وجد في أجسادهم مرتعا خصبا، فكان كلّ واحد منهم يحتفظ بعدد كبير منه!”(جورجيو، 2015، ص 130). وتظهر هذه المعاناة والظروف نفسها في “دروز بلغراد”، فاجتمع على المساجين وهم في سجن قلعة بلغراد أنماط العذاب المختلة: “القمل والجوع والظلام. كانوا ضائعين لا يعرفون الزمن، يرعى القمل شعرهم ولحاهم وأبدانهم، وكلما قتلوا فوجا يفقس من البيوض فوج جديد” (جابر، 2015، ص 41).
المسائل ذات الصلة بتفاصيل رحلة السجن بين الروايتين عديدة، بالإضافة إلى مشاهد التجويع والتعذيب والعمل المجّاني، منها فقدان المساجين الإحساس بالزمن نتيجة لعزلهم فترات طويلة في أماكن مغلقة، وتمنيهم الموت من أجل إنهاء العذاب، والشوق الدائم إلى الأهل وتعلّق الأمل في الخلاص بهم، والهرب من السجن والنجاح في ذلك ولكن بشكل مؤقت، حيث يُقبض على موريتز في هنجاريا ويُعاد إلى السجن وتُستأنف صور التعذيب مرة أخرى (جورجيو، 2015، ص 171-181)، وكذلك يحدث لحنا، حيث قُبض عليه في الجبال الممتدة بعد مدينة صوفيا ويعود إلى السجن المظلم والجوع والأعمال الشاقة (جابر، 2015، ص 173-180).
النهاية
تتعلق النهاية في “الساعة الخامسة والعشرون” بالرؤية المأساويّة اللانهائيّة، فالظلم والعذاب يستمر دون توقف، والشخصيات لا تنتقل إلا من اعتقال إلى اعتقال أو موت. فمعظم الشخصيّات تموت في السجن، ومنهم الكاتب تريان، وأبوه القس ألكساندرو، وكثير ممن كانوا من بلدتهم عند اجتياح القوات السوفييتة لرومانيا، وكذلك والد زوجة موريتز الأولى سوزانا الذي انضمّ للقوات الهتلريّة والتقى زوجة موريتز الثانيّة هيلدا التي لم تستطع تصوّر الحياة مع خسارة ألمانيا للحرب، فأشعلت النار في والد سوزانا بعد أن قتل نفسه وأحرقت نفسها وطفلها (جورجيو، 2015، ص 288-300). وفيما يتعلّق بموريتز، فعلى الرغم من نجاته من الموت مرات عديدة، وهربه من السجن مرات أيضا، إلا أنّه بقي بين الهرب والاعتقال، حتى بعد انتهاء الحرب، حيث أطلق سراحه وعاد إلى زوجته سوزانا وابنيه الذين كانوا في ألمانيا الغربية، إلا أنّ حريته لم تدم سوى ساعات قليلة أعيد بعدها إلى المعتقل، لأنّه ينتمي إلى دولة معادية وفق ما فرضته الحرب الباردة. شعر موريتز أن أسلاك السجون التي مات فيها رفاقه ونجا منها “تدخل في جسده وتدمي قلبه. فكّر في قرارة نفسه: سأعود الآن إلى معتقل جديد وبذلك أكون قد مكثت حرا ثماني عشرة ساعة. لكنني الآن لا أسجن لأنني يهودي أو روماني أو ألماني أو هنجاري أو من فرق الحرس، بل لأنني من رعايا الكتلة الشرقيّة..” (جورجيو، 2015، ص 475). ينتهي موريتز وهو ممتلئ بالرحيل بين المعتقلات، ويتصور أنّ بني الإنسان “لن يروا بعد اليوم إلا معتقلات وأسلاكا شائكة وقوافل ترحل” (جورجيو، 2015، ص 476).
المعاناة لا تتوقف أيضا في “دروز بلغراد”، فالنظام لا يتيح أيّ تغيير للمأساة، فالعمل الشاق الذي يقوم به الدروز لا يشفع لهم أو ينقذهم من العودة إلى القبو الذي يحتجزون فيه دون توفر حتى مصدر للهواء أو الضوء، فهم في عذاب لا ينتهي (جابر، 2015، ص 62-63). وحين يجد حنا تعاطفا من الإخوة غفّار، يطلب منهم أن يخبروا الحاكم راسم باشا بأنّه مسيحيّ وليس درزيا، وأنّه أُسر دون أن يكون له علاقة بالأمر، فيجيبه الإخوة عن الحرب التي يشنّها راسم باشا ضد المسيحيين الصرب، ولو عرف أنّه مسيحيّ لقتله، “ماذا يفعل راسم باشا الآن؟ يقصف كنائس الصرب ويدكّ بيوتهم. اشكر ربّك أنّه لا يعرف من تكون. إذا قلنا له هذا مسيحي يقطع رقبتك!” (جابر، 2015، ص 83). وبعد كلّ سنوات السجن والترحيل والتعذيب والتجويع والعمل الشاق يطلقهم السلطان العثماني، إلا أن عذابهم لا ينتهي، لأنّهم يجبرون على الخدمة في الجيش العثمانيّ لمدة سنة (جابر، 2015، ص 131-132)، فيرحلون مع الجيش من الهرسك إلى صوفيا، فيكون العذاب أشدّ من السجن (جابر، 2015، ص 143-145). في الجيش يزداد الموت بينهم، مرة بالهواء الأصفر (جابر، 2015، ص 158)، ومرة بالهجوم عليهم بالرصاص (جابر، 2015، ص 164-165). يموت معظم الدروز ولا يظهر من الناجين سوى حنا، فيتمكن من الوصول إلى بلغاريا، وينجح بالهرب من الجيش، إلا أنّ ذلك لا يعني خلاصه، وإنّما يُقبض عليه بتهمة الهرب من الخدمة العسكريّة. وبعد أن قال حكايته للحاكم العثمانيّ، اكتشف أنّه كان يكلّم نفسه وأنّ أحدا لم يسمعه، فتتكرر رحلة السجن والعذاب، ويصبح عاجزا عن الكلام بشكل دائم، وتسيطر عليه الهلوسة حتى إنّه يكاد لا يميّز الخيال من الحقيقة (جابر، 2015، ص 172-189).
وعلى الرغم من أنّ حنا ينجح مرة أخرى في الهرب، وكان ذلك من القلعة السوداء في الجبل الأسود، حيث يلتقي بالراعي المقدوني الذي يدلّه على قافلة الحجاج، فيذهب معهم حتى دمشق ومنها يذهب إلى بيروت، إلا أنّ ذلك يأتي ملتبسا بالحلم، حيث رأى ابنته بربارة فظنّها زوجته وظنّ أنّ الزمن توقف منذ خروجه، فشعر أنّه يحلم وأنّه ما يزال في السجن؛ “((لكنّ هذا مستحيل! هذا كلّه منام؟ كابوس؟ ما زلت في الحبس!)) تجمّد مبلولا عرقا. أيقن أنّه عالق إلى الأبد في قبو في البلقان… ((ستموت هنا يا حنا يعقوب؟ من أجل موتك جئت من آخر الأرض؟))” (جابر، 2015، ص 219). وحين تراه ابنته تظنّه “فقيرا واقفا في جلد ماعز، لعله يريد خبزا، أو بيضا من القنّ..”، وعندما رأته هيلانة، أخذت تتلمسه لتتأكد أنّه ليس شبحا (جابر، 2015، ص 219-220). هذا الالتباس في طبيعة وصول حنا إلى بيته يلغي المسافة بين الحلم والحقيقة، ويعكس مدى حضور السجن في تكوينه واستمراره فيه؛ فقد تأصل يقينه بالظلم والعذاب، ومات معظم من كانوا معه، فتلاشت كلّ آماله بالنجاة.
هذا القدر من التماثل في البنية الحكائيّة والرؤية في الروايتين يجعل تقدير الرواية المتأخّرة وتقييمها مرتهنا بمعرفة الأولى؛ لأنّ هذا يكشف مدى ما قدّمته الرواية الواقعة في دائرة التأثّر من إبداع أو تقليد على مستوى البنية والرؤية.فمن الواضح أنّ “دروز بلغراد” لم تستطع إخفاء مرجعها، أو كما قال هارولد بلوم المشار إليه سابقا، لم تستطع التكتّم على روافدها.
*أستاذ الأدب والنقد الحديث في الجامعة الأردنية

الآراء الواردة في المجلة لا تعبر عن رأي المجلة وإنما عن رأي كاتبها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى