شهيرة محرز.. حارسة التراث المصري

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

وئام يوسف

ما إن تطأ قدماك عتبة بيت الباحثة شهيرة محرز، حتّى تنفصل عن صخب حيّ الدقي، لتدخل عالماً من السحر يعكس حقب التاريخ المصري. مقتنيات وتحف وصناديق، بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر، منها الشامي والمملوكي والفرعوني، تتضافر جميعها لتضعك أمام مشهد أقرب إلى السورياليّة. بيت عربي مُعاصر مبني قرب حوش داخلي، ومصمّم وفق الاحتياجات. رفوف مكتظّة بالكتب والكثير من الطاولات ـ لانشغالها الدائم بالقراءة والعمل. بعض الأثاث البسيط والتقليدي تتخلّله كراسٍ غربيّة، لطالما أيقنت بتأثر الحضارات بعضها ببعض، مع الحفاظ على الهويّة الأصليّة.
ذلك ليس غريباً عن سيدة دأبت، خلال عقود من حياتها، على دراسة التاريخ المعماري والفنون التقليديّة في التراث العربي والمصري. كما عملت على إحياء الهويّة العربيّة من خلال مظاهر (الزي، الأثاث، العمارة)، تعتبرها أساسيّة في الحفاظ على حضارة تمتدّ عبر آلاف السنين.
أكثر ما يؤلم شهيرة محرز الآن، هو ما يحدث من طمس للهويّة العربيّة والمصريّة، والذي يظهر في جميع معالم الحياة، بدءاً من اللباس وفرش المنازل مروراً بالتخطيط المعماري للمدن، وصولاً إلى الغناء الذي بات خلال العقود الأخيرة عربيًّا لكن بتوزيعات وآلات غربيّة، وهذا ما تسميه التهجين، والذي يؤدّي إلى ضياع الهويّة العربية: «عمر حضارتنا عشرة آلاف سنة، وهي زاخرة بالتراث والأمجاد، إلَّا أنّنا نقوم بتصفيتها نتيجة تأثّرنا بالغرب الذي لا يتجاوز عمر حضارته الألف عام»، مشيرةً إلى أنَّ هذا الرفض لحضارتنا سهّل انتشار الأفكار التكفيريّة.
«لستُ ضدّ الحداثة أو التطوير، شرط أن تكون مدروسة وتحافظ على العناصر الأساسيّة المعبّرة عن الحضارة والتراث مع إدراك الفرق بين التطوير والتهجين» تقول.
وتضيف أنَّ «الزيّ وشكل البيوت وتخطيط المدن ليست تفاصيل كماليّة في حياة شعوبنا، بل هي جزء أصيل يعكس ثقافتنا العربيّة ومن الضروري إدراك أهميّته والاعتناء به»، مشيرةً إلى أنَّ التراث العربي له هوية مشتركة عبر التاريخ، سواء في العمارة أو الزي، مع بعض الخصائص التي يمتاز بها كل بلد.
نحن نعتمد التجديد عبر تلاحق العصور، فكلّ حقبة تشهد إضافات جديدة مع الحفاظ على الطابع الرئيسي، والاعتماد على المواد الأوليّة وفقاً لمتطلباتنا، حيث ارتفاع درجة الحرارة يدفعنا للبناء قرب حوش النباتات، وقلة الأخشاب تفرض استخدام الأحجار في البناء، في حين أنَّ انتشار النسّاجين يجعل الاعتماد عليهم واضحاً في تفاصيل البيوت.
وتؤكّد محرز أنّنا الآن «لا نعدو كوننا متطفّلين على حضارة الغرب التي اعتمدت فكرة الموضة منذ الثورة الصناعية، إذ خلقت المصانع التي بدورها تتنافى وفكرة الحفاظ على التراث، لأن فكرتها تقوم على إنتاج الجديد كل سنة، الأمر الذي أغرقنا في دائرة الاستهلاك التعسفي، بعيداً عن دائرة الاحتياج».
تمتلك شهيرة محرز غاليري يعرض الأزياء التقليديّة المصريّة. وفور دخولك إليه، تشعر أنك أمام متحف يوثّق التراث المصري منذ أيام الفراعنة ولغاية اليوم. كما لم يغب عنه زيّ أيّ قرية في مصر، بدءاً من الصعيد وسيناء، وصولاً إلى قرية أبو رواش الواقعة قرب الأهرام.
وتعتبر محرز أنَّ أولئك الناس البسطاء هم آخر حلقات التواصل بين الماضي والحاضر «فهم الذين ما زالوا يتمسّكون بالتراث والزيّ التقليدي»، الذي تعمل على إحيائه باستمرار من خلال تصنيعه وعرضه في الغاليري الذي يساهم في انتشار هذا الزي من خلال زبائن يأتون من أنحاء الوطن العربي والعالم.
لم تتردّد شهيرة محرز في ابتكار تصاميم جديدة من حيث الشكل والألوان، لكن مع الحفاظ على الطابع الأساسيّ للزيّ، والذي يعكس هوية موطنه: «الزي التقليدي في مصر له أشكال عدّة، جميعها تعود إلى أيام الفراعنة، ثمّ شهدت عبر تلاحق العصور تطوراً وإضافات تمتّ حسب المؤثّرات والفترة الزمنيّة، وصولاً إلى القرن العشرين الذي احتوى 14 زيًّا مصريًّا عمر كل واحد منها لا يزيد على أربعة آلاف عام».
وتشير إلى أنَّ الملابس التقليديّة تسمح بالحفاظ على التراث، كما أنّها تلغي الطبقيّة كونها غير خاضعة للضغوط الاقتصاديّة، فترى الخادمة قديماً ترتدي الزي نفسه الذي ترتديه صاحبة البيت، ذلك لامتلاكها حرفة التطريز التي ربّما تجعل زيّها أكثر جمالاً وبساطة من غيره.
نشأت شهيرة محرز في مدينة القاهرة وسط عائلة إقطاعيّة ناهضت الاحتلال الإنكليزي، ورفعت شعارات «ثورة يوليو» 1952، والتي سعت لأن تأخذ المرأة حقّها في الحياة وتثبت قدرتها على التغيير والابتكار، لتكون شهيرة أوّل فتاة في عائلتها تدرس في الجامعة، وتنال ماجستير في الكيمياء.
كانت حينها لا تزال محمّلة بآثار قهر الاحتلال وما ألحقه بالبلد من طمس للفكر والهوية العربيّين، الأمر الذي دفع بها لعطف حياتها في سبيل البحث عن الهوية، فدرست الآثار الإسلامية والفن الإسلامي، وجالت في مصر برفقة صديقها المعماري حسن فتحي لتتعرّف على معمار الأقاليم ومعمار الفلاحين الذين هم آخر حلقة وصل مع تاريخ التراث المصري، كما تقول.
وتؤكد محرز أنَّ معظم جيل الشباب لا يدرك أهميّة الحفاظ على التراث: «جيل اللابتوب والإنترنت، الذي يستقي معلوماته من غوغل وويكيبيديا، من دون أن يبذل جهداً في البحث والاطّلاع». وتشير إلى وجود بعض ممّن يهتمّون بهويّتهم إلَّا أنّهم غير ظاهرين، مؤكدةً أنّها التقت معماريين من الشباب المميزين والمدركين لأهميّة التبحر في تاريخ العمارة المصرية. لعلّهم يحملون رايتها للحفاظ على حضارة قال المستعرب الصيني لي قوان فبين، إنّها «امتلكت عوامل البقاء، وكانت عصية على الهدم، لتوافر أركان التجدد والحيوية في نبضها المتدفق».

 

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى