في معرضه الجديد في دبي «أناشيد شهرزاد»

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

صفاء ذياب

لا يعنى الفنان ستار كاووش بالموت، كما أنه لا يبالي بالحرب، فضلاً عن الكراهية والحقد والعنف.. لا يعنى بمرادفات هذه الكلمات ولا حيواتها التي تعاد كل يوم في مجتمعاتنا، كل ما يفكر به، في لحظتنا هذه هو الحب، ذلك أنه لا ينفك من تكرار هذه الكلمة في حياته ولونه وموتيفاته، إلى درجة أنه وضعها على طاولات تمنى أن توزع على كل بيت من بيوتنا.
الحب في لوحات ستار كاووش يتجلى في مفاهيم وتقنيات ورؤى وزوايا وقماشة كل لوحة، فبعدما قدَّم «نساء التركواز» و»نساء فيروز» و»سيرة مدينة» وأكثر من عشرين معرضا منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، يقدم لنا اليوم معرضه الجديد «أناشيد شهرزاد» على غاليري لمياتوس في دبي ويستمر لمدة شهر كامل.
في معرضه الجديد، قدم كاووش اشتغالاً مختلفاً على اللون، وهو ما يجعلنا نتساءل عن الأسباب التي تغير فلسفة الفنان وإحساسه بألوانه مع كل تجربة جديدة. كاووش يجيب عن تساؤلنا في حديث خاص مع صحيفتنا، مبيناً أن التونات ودرجاتها هي التي تتغير في الغالب، يصاحبها بالتأكيد اختلاف في معالجة السطوح والطريقة التي تُبنى فيها اللوحة، وبما أن اللون هو أساس صناعة العمل الفني، فعليَّ إذن أن أختار الألوان المناسبة لهذه المجموعة من الأعمال، دون غيرها. مضيفاً أن الألوان مادة خام مثل قطعة القماش التي تتحول مرة إلى قميص وأخرى إلى قبعة أو ربطة عنق. «أضع عادةً طبقة من اللون على مساحة معينة من اللوحة ثم أحاول أن أجد درجة اللون المناسبة للمساحة التي تجاورها، وهكذا حتى تصبح لدي ثلاثة تونات متجانسة، أبحث لها عن النغمة المناسبة لتتمدد على القماشة كلها. العملية تشبه إلى حد كبير موسيقى الجاز، حيث تعزف عادة بدون نوتة موسيقية، فيبدأ عازف هنا بنغمة معينة ويجيبه عازف آخر بنغمة أخرى، وهكذا إلى أن يكتمل كل شيء بشكل عفوي وآني، لكن يبقى الفرق الوحيد بين ذلك وبين الرسم هو أن الألوان أو التكوين في الرسم يخضعان لتعديلات هنا وهناك، لكي يتكاملان ويتجانسان مع بعضهما، وهذا يعود إلى أن الرسم تراه العين كاملاً خلال لحظات، بينما في الموسيقى نحتاج إلى بعض الوقت والاسترسال حتى تكتمل القطعة».
هناك عدد من الفنانين يقومون بتقويض فكرتهم في بناء اللوحة من أجل إنتاج لوحة جديدة، وربما هذا ما نراه في بعض أعمال معرض كاووش الجديد، فهناك أعمال تشبه إلى حدٍّ كبير بعض لوحات معارضه السابقة، غير أنه قام بتهديم فكرتها وإعادة إنتاجها برؤى مختلفة، غير أن كاووش في كلامه عن تقويض وبناء اللوحة، يريد أن يتحدث عن الموضوع أو الفكرة، مبيناً أن إخراج العمل الفني وتقنيته والطريقة التي تُعالج بها السطوح هي التي تقود إلى التغيير في الغالب، وما الموضوع سوى غطاء يُغطى به العمل الفني ليبعده عن التجريد المباشر. فاللوحة قبل أن تكون بورتريت لامرأة أو منظر طبيعي أو عاشقين يجلسان في حديقة، هي قطعة من الكانفاس مغطاة بمجموعة من الألوان، حسب تقنيات ومعالجات معينة ووفق إشارات رمزية يشير من خلالها الفنان وبطريقة تشكيلية أو فنية إلى أهدافه التي تكون في الغالب جمالية أيضاً. الأفكار بشكل عام موجودة في كل زاوية من حياتنا، وهي ليست شيئاً أساسياً في عملية الرسم؛ حسبما يرى، والأهم من ذلك هو كيفية النظر إلى هذه الأفكار ومن أي زاوية ومنظور، كيف ننزع عن الفكرة قشرتها الخارجية ونمسك بروحها ونوظفها في أعمالنا؟ إذا استطعنا الوصول إلى ذلك فإننا سنجد الطريق المناسب وسننتج أعمالاً ناجحة ومتجددة تحمل مواصفات العمل التشكيلي المؤثر والجميل والمهم.
ربما يجرنا حديث كاووش هذا إلى الكيفية التي يتمكن من خلالها الفنان أن يهشم المعنى في سبيل إعادة إنتاجه، فضلاً عن إعادة إنتاج العالم عن طريق لوحته.. إلا أن هذه العملية؛ برؤية كاووش، تشبه شخصاً يملك دولاباً أو خزانة من الخشب وعليه أن يحطمها ويصنع من بقاياها طاولة، لهذا يشير إلى أن الفن في فحواه ووجوده وإنتاجه، هو عملية تحطيم الشكل الطبيعي للأشياء والموجودات وبنائه من جديد وفق رؤية وأسلوب وتقنية خاصة بالفنان، وتمثل خبرته الجمالية وتجربته البصرية. و»بمناسبة الحديث عن بناء العالم من خلال الفن، أنا لا أعتقد بهذه الفكرة، أو ربما لا أهتم بذلك كثيراً. الفنان برأيي يؤثر على تاريخ الفن والجمال أكثر من تأثيره على العالم بشكل عام، وهناك الكثير من الناس لا يهتمون لما نقوم به نحن الرسأمين، وربما هذا جيد بحد ذاته أيضاً، كي لا يحَمِّل الفنان أكثر من دوره ومعنى وجوده. فالفنان ينتج أعمالاً هي في الغالب ذاتية وتعكس رؤيته الشخصية بشكل جمالي، ولا يمكن أن تبتعد عن ذلك سوى بعض الخطوات ولضرورات معينة. حتى «الجورنيكا» لم يرسمها بيكاسو برأيي، بل رسمها فرانكو حين أمر بقصف هذه القرية وتحطيمها بالكامل، ثم جاء بيكاسو ليشير إلى المشهد بطريقة تشكيلية». مضيفاً: تبقى اللوحة (أي لوحة) تشبه فتاة صغيرة وجميلة وحالمة تشد شعرها بشريط ملون، هي تستطيع أن تلعب وترقص وتغني وتحلم أجمل من الآخرين، لكنها لا تستطيع أن تواجه دخان الحروب وأصوات المدافع.
تميزت أعمال كاووش الأخيرة بتقنية تقطيع اللوحة وتهشيمها مثل المرايا.. فما المرآة التي كان ينظر من خلالها لفكرة بناء اللوحة؟ يكشف كاووش في حديثه عن هذه التقنية: «أعود هنا للسنوات التي عشتها في مدينة كييف، حيث الأيقونات التي تملأ الكنائس، وكذلك الرسم على الزجاج المعشق بالرصاص، لقد تأملت كل ذلك طويلاً وأشعر بأن شيئاً من تلك الأجواء والتقنيات قد انتقل إلى سطوح لوحاتي، وطبعاً لا يخلو ذلك بالنسبة لي من بعض اللمسات التكعيبية أيضاً. وهنا الأمر يتعلق أيضاً بتكوين وإخراج العمل الفني. في تلك السنوات في مدينة كييف بحثت كثيراً عمن يقدّر موهبتي ورسوماتي، لكنني أيضاً عرفت كيف أقدّر الأيقونات الأوكرانية والروسية التي بدت مثل الكنوز بالنسبة لي. لم أغفل أبداً رساماً مثل ربيلوف وأيقوناته العظيمة، أو حتى لاكتيونوف الذي جاء بعده بسنوات طويلة. عرفت وأنا أتجول هناك بين الطبيعة المهيمنة لماذا كان شيشكين يرسم لوحاته عن الطبيعة والغابات بهذا الحجم الواسع المخيف.
وحتى النساء اللواتي أرسمهن الآن فيهن شيء من تلك النساء البعيدات اللواتي التقيت بهن في كييف، ما زلت أتذكرهن وهن ينظرن إليَّ بابتسامة كلها حنو وبساطة، حيث دوائر حمراء على وجناتهن الشفافة تجعلهن مثل رسومات إيليا ريبين المائية الباهرة. تجربة كييف رغم صعوبتها كانت تجربة جمالية في الكثير من جوانبها بالنسبة لي، كنت أنظر بعين مختلفة إلى كل ما يحيطني هناك، حيث راقبت الرسم على الزجاج واقتربت منه كثيراً لأتعرف عليه، تحسسته كثيراً فأصبح قريباً مني وتأثرت به أعمالي كما ترى مثلما تأثرت بالأيقونات النادرة».
بعد أكثر من معرض أقامه كاووش منذ أكثر من عشرين عاماً، بدأ بعض المتلقين يرون أنه يكرر لوحاته، خصوصاً أنه يعمل بموضوعات متقاربة وألوان وتقنيات قريبة جداً من بعضها، إلا أن كاووش يقول إنه ينظرُ إلى أعماله في أحيان كثيرة نظرة بعيدة عن الموضوع أو المضمون، أي ينظر لها وكأنها أعمال تجريدية، وما الموضوع الذي يرسمه سوى حجة يبتكرها كي يستمر بالرسم من دون توقف، «إنسَ المضأمين في لوحاتي وانظر لها نظرة مجردة، هل تراني أعيد إنتاجها؟ لا أعتقد ذلك. ربما يرى الآخرون نساء كثيرات في لوحاتي يتكرر رسمها هنا وهناك ومن هنا يظنون بأنني أكرر هؤلاء النساء، النساء هنا هن الطريق الذي يوصلني إلى الرسم وليس الرسم نفسه، لا تنظر إلى الطريق الذي أسلكه كي أصل إلى البيت، بل أدعوك لأن تطل على البيت نفسه وتراه، هذا البيت الذي بنيته بتقنياتي ومعالجاتي ورؤيتي الفنية وأسلوبي الذي يمثلني، هذا ما يهمني أكثر وهو الذي أدعو الآخرين لزيارته».
ربما كان الحب هو موضوع كاووش الأثير منذ سنوات، فهو يقدمه مع كل لوحة من لوحاته لأنه يعيش الحب دائماً وفي كل لحظة، وحين يرسم الحب أو يعيشه، فالعملية سواء بالنسبة له، وبالنسبة إلى الشخصيات التي يرسمها، يشعر بأنه مثل مخرج سينمائي يحركها مرة إلى هذا الجانب وأخرى إلى تلك المساحة، «هؤلاء أبطالي الذين أحبهم ويساعدونني على إنجاز أعمالي وتجريب تقنياتي. هذه الموضوعات توفر لي سعادة وارتياحا برسمها مثلما يوفر لي الرسم ذلك بشكل دائم، ولو توقف الرسم عن منحي نوع من السعادة، فسأكف عنه وربما أبحث عن أشياء توفر لي السعادة أكثر. أن تكون رساماً وتتفرغ لعملك ولوحاتك فهذا شيء ممتع ورائع. في كل مرة وأنا أشرع بالرسم أتخيَّل ملاكاً يخطر بدراجته الهوائية قرب نافذة المرسم ويلوح لي بيديه، أنا بالتأكيد لا أؤمن بانتظار الإلهام في عملية الرسم، لكنني أحب أن أنظر إلى الأشياء بصفاء لأن ذلك يقودني فعلاً إلى الرسم، أنظر إلى غيمة صغيرة من خلال نافذة المرسم أو أطل على جارتي الشقراء وهي تسقي زهور حديقتها صباحاً، كل ذلك يجعلني أبدأ يومي بشكل جيد وأنا أتهيأ للرسم».
من جانب آخر، يوضح كاووش أن كل مرحلة لدى الفنان تأخذ وقتاً أو تحتاج إلى فترة زمنية كي تعيش وتتنفس وتكون لها حياتها الخاصة والكاملة، ثم يودعها الفنان لينتقل إلى فترة أو مرحلة أخرى يراها تناسب رؤيته الحالية وتقنياته والمؤثرات التي تؤثر عليه. و»أنا أحاول في أعمالي أن أنتقل من منطقة إلى أخرى من خلال التقنيات أكثر من الموضوع، لأن ذلك هو أساس الرسم بالنسبة لي، أتهيأ الآن مثلاً لرسم مجموعة من الثلاثيات، وهنا كل عمل يتكون من ثلاث لوحات تعرض معاً إلى جانب بعضها، كذلك بدأت التهيئة لأعمال من الموزائيك التي تتلاءم وتنسجم تماماً مع تقنياتي وتقاطعات الخطوط في أعمالي وتقطيع مساحات العمل». ويسرد كاووش: لقد مرَّ بيكاسو على سبيل لمثال بفترات عديدة في حياته الفنية، لكنه لم يعرف لماذا طالت هذه الفترة ولماذا قصرت تلك، هو كان منشغلاً بعمله الفني، والانتقالات تأتي تدريجياً وأحياناً بشكل عفوي، لكن على الفنان أن يمسك بها ويوظفها في أعماله.
لا أحد يمكنه أن يقول لمودلياني مثلاً، لماذا بقيت ترسم طوال حياتك بهذه الطريقة دون غيرها ولم تنتقل إلى طريقة أخرى؟ وهذا الأمر ينطبق تماماً على شاغال وجياكوميتي وغيرهما الكثير، مثلما لا نستطيع أن نلوم بيكاسو لأنه انتقل إلى مراحل عديدة. عملية الرسم شائكة في الكثير من جوانبها ولا يمكننا أن نضعها في قالب واحد، لا من أجل التغيير ولا من أجل الثبات. المهم أن يستمر الفنان في إنتاج أعمال جميلة تبهر المشاهد.
الرسام المحترف كائن يصحو كل يوم ليجد نفسه في ساحة مستديرة تؤدي إلى مجموعة من الشوارع، وهنا عليه أن يختار الطريق الذي يناسب مزاجه وذائقته وحساسيته في تلك اللحظة، وهنا ربما يخطئ الطريق، لكن عليه أن يعالج ذلك بحساسية وقوة موهبته أيضاً ليصل إلى ما يريده ويهدف إليه.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى