أنثربولوجيا الخبز في مصر العثمانية: البحث في التاريخ عبر المسالك الملتوية

الجسرة الثقافية الالكترونية

محمد تركي الربيعو

شهدت الدراسات التاريخية العربية في السنوات القليلة الماضية تطورا نوعيا واهتماما متزايدا بدراسة المصادر العثمانية الجديدة (دفاتر المهمة، سجلات الشرعية، الأوقاف وغيرها). وهو الأمر الذي أخذ يؤسس لمقاربات جديدة للحياة اليومية داخل الولايات العربية العثمانية، من خلال سعي بعض المؤرخين إلى مقاربة بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية بمنطق أقرب ما يكون إلى منطق الأنثربولوجي، حيث يقوم المؤرخ باستغلال الطابع التجزئي للمعطيات الواردة في الأرشيف ليحدد من وراء هذا الاستغلال الآليات والمنطق اللذين يفسران ظرفية ما ـ أي ما نسميه فترة تاريخية ـ أو تطورا ما (التاريخ الجديد، جاك لوغوف، ص244).
من هنا، أخذ تاريخ الغذاء في الولايات العربية العثمانية يستهوي عددا من المؤرخين، خاصة أن العديد من المصادر العثمانية أخذت تكشف عن جديد حيال هذا التاريخ المرتبط بـ«اليومي» و«المعتاد»، سواء على مستوى أسعار المواد الغذائية، أو تقاليد وحصص ونوعية الطعام لدى بعض الطرق الصوفية أو داخل بعض الوقفيات، أو حتى عبر التعرف على مستوى الاذواق الجديدة للحكام وبعض الشرائح الاجتماعية داخل الولايات العربية العثمانية، من خلال سجلات المطابخ العثمانية. وهذا ما أخذ يؤسس لرؤية جديدة للاستهلاك الشعبي، الذي بات وفق – هذه الكتابات- بمثابة مرآة عاكسة للتغيرات على المستوى الاقتصادي والسياسي، أو على مستوى العادات والذهنيات. وكمثال على هذه الدراسات، يمكن أن نشير هنا إلى كتاب المؤرخ التونسي رضا بن رجب «يهود المال ويهود البلاط في تونس العثمانية»، حيث كشف فيه ومن خلال دراسته لسجلات المخزن (الجمارك) في منتصف القرن التاسع عشر، عن استحضار أنواع جديدة من المواد الغذائية والسلع مثل «المعكرونة» ومعلبات الطماطم، وهو ما طرح تساؤلا في ما اذا كانت قد بدأت تطرأ تغييرات على التقاليد الغذائية للمجتمع التونسي آنذاك، أم أنها كانت تشير إلى ازدياد توافد أفراد الجاليات الأجنبية في تلك الفترة تحديدا، خاصة الإيطالية بعد أن غدا لها نفوذ اقتصادي كبير داخل الولاية.
في السياق نفسه، يمكن أن نشير إلى كتاب المؤرخ المصري جمال كمال محمود «الخبز في مصر العثمانية» الصادر حديثا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. والذي اعتمد فيه المؤلف بشكل أساسي على سجلات المحاكم الشرعية، وبعض المخطوطات مثل مخطوطة «المنح الرحمانية في الدولة العثمانية» للشيخ محمد بن ابي السرور البكري، ومخطوطة «نزهة الناظرين في تاريخ من ولي مصر من الخلفاء والسلاطين» للشيخ مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي. الجميل في هذا الكتاب، أنه يسعى لإعادة اكتشاف دور العثمانيين في مصر، سواء على المستوى الإداري، أو على مستوى علاقة المجتمع بولاة الأمر، ودور العلماء في تلك الفترة، إضافة إلى علاقة مركز الولاية بالأطراف، من خلال مرآة حياة الخبز المتمثلة في صناعته والرقابة على إنتاجه أو ارتفاع أسعاره في شوارع الإسكندرية ودمياط وغيرها من المدن المصرية.
فعلى المستوى الإداري، يظهر عدد من الوثائق لعام 1565، أن الجودة كانت محل اهتمام الإدارة، إلى درجة أنها طلبت من المحتسب أن يتأكد من أن الطحان غربل الحبوب من التراب ونظفها من الغبار. وأن يختبر دقيق القمح حتى لا يكون قد خلط بدقيق حبوب أخرى كالشعير والذرة، كما أن على المحتسب أن يتأكد من عدم الطحن في أثر نقر حجر الطاحون، للضرر الذي يحدثه اختلاط الدقيق ببقايا مخلفات عمليات نقر الحجر، وعليه تفقد صحة موازين الطحانين التي توزن فيها الحبوب قبل طحنها وبعده، وكتابة اسم صاحب كل دقيق وعنوانه في شارة تعلق على زنبيل الدقيق، وذلك حتى لا يختلط دقيق الناس بعضه بالبعض الآخر، كما يقوم بالتأكد من سلامة الأكياس التي يوضع فيها الدقيق المطحون حتى لا تكون فيها ثقوب تؤدي إلى تسرب الدقيق في الطريق، ويلزم الطحانين بتزويد أصحاب المخابز بكميات معينة من الدقيق كل يوم، حتى يصنعوا الخبز لبعض الناس الذين يشترونه من الأسواق.
وقد أدى هذا إلى التأكد من أن الصبي الذي يأخذ القمح من البيوت ويرده إليها أمين وتقي، حفاظا على حرمة المنازل، ومن منع نساء البيوت من الوقوف لصبي الطاحون، ومن أن الحمالين لا يبددون القمح، ومن تخصيص من يكنس الحبوب المتناثرة ويلتقطها، وهي أمور يبرر معظمها بالاهتمام الفقهي بطهارة الدقيق واحترامه، وعدم تبديده، والحفاظ على التقاليد الاجتماعية الإسلامية. كما فرض المحتسب على الطحانين عدم تعدي أحدهم على خط الآخر وحصته، حيث ألزمهم بعدم الدوران على الأبواب ليجمعوا من الناس القمح المراد طحنه، بل عليهم البقاء بدولابهم وانتظار رزقهم حتى يأتي إليهم، وقد اتفق بعض الطحانين على عدم تعدي أحدهم على حصة الآخر، وعدم الدوران على الأبواب، وعلى أن لا يحمل أحدهم أطحنة ويتوجه بها إلى دولابه.
كما اهتمت الإدارة بمراقبة جودة الرغيف من النواحي كلها. ففي حالة من الحالات التي سجلتها وثائق محكمة الإسكندرية في القرن السادس عشر الميلادي لقضية شملت تسعة خبازين تعدّوا على جودة الخبز، وجدنا أن الرغيف (عجين) قبل أن ينضج نقص أوقية عند خبازين، ونقص ربع أوقية عند اثنين. والأكثر من كل ذلك, هو أن الوثيقة نفسها تتجاوز ذلك لتصل إلى حد البحث في رائحة الخبز «ووجدوه متغير الرائحة».
كما كانت الإدارة تلجأ في بعض الحالات إلى أسلوب آخر غير مباشر في الإدارة ورقابة جودة الخبز، عبر جمع سلطة مشيخة الطوائف المنوط بها صناعة الخبز بأنواعه لشيخ واحد، ويخضع ذلك الشيخ لرقابة صارمة، ففي الإسكندرية أقام القاضي شخصا يدعى الزيني حسن «شيخا ومتكلما على طائفة الخبازين والفرانين وصناع الكعك». وهذا الاختيار لا يكون بيد سلطة الولاية، بل يتم اختياره من قبل العاملين في صناعة الخبز، وفي هذا المجال تشير الوثيقة نفسها إلى أن بعض الفرانين والكعكية قد حضروا إلى القاضي، واختاروا (حسن) المشار إليه، وذلك «لأهليته لذلك وكفايته ولأنه من أهل الاستقامة والخبرة وهو الصالح لذلك دون غيره».
أما بعض الوثائق الأخرى فهي تشير إلى ما أصاب المجتمع المصري من جراء الأزمات الاقتصادية التي كانت تضرب مصر بين الفينة والأخرى، وكانت تلقي بظلال كثيفة على الخبز، وعلى علاقة الناس بالسلطة السياسية. وفي ما يتعلق بالحياة الاقتصادية، تشير وثائق عديدة إلى أنه في عام 1601، ضرب مصر غلاء شديد إلى درجة أنه «لا يوجد خبز في الأسواق» وكان نتيجة ذلك أن غدا نهب الخبز ظاهرة في أثناء تلك الأزمات الاقتصادية، ولذلك تزخر وثائق عديدة بهذه الأخبار «حيث ادعى أحد الخبازين على شخصين بأنهما تعديا عليه بالضرب ونهبا خبزه، وكانت ثلاثة اقفاص فيها خمسمئة رغيف». وإذا كانت الرواية السابقة تعزى إلى نهاية القرن السابع عشر، فلدينا رواية أخرى – بحسب المؤلف- تعود لنهايات القرن الثامن عشر، وهي لمؤرخ عمدة هو الجبرتي الذي عاصر أيضا هذه الحوادث ورآها بأم عينيه، ومكان الرواية هذه المرة حي الأزهر بما فيه الجامع نفسه، وزمانها 1785 يقول الجبرتي «ثار فقراء المجاورين والقاطنين في الأزهر، وأقفلوا أبواب الجامع، ومنعوا الصلوات، وكان ذلك يوم الجمعة، فلم يصلَ فيه ذلك اليوم، وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له، ومسجد المشهد الحسيني، وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره». وهو ما يعني أن الأهالي لم يكونوا بعيدين عن الصورة تماما، بل أنهم في بعض الأحوال تصدوا لهذه الأزمات برفع شكاواهم إلى ولاة الأمور. وكانت الشكوى تؤتي ثمارها مرات وتخفق في مرات أخرى، فيكون الرد عنيفا، وتتحول لثورة ينهب فيها العامة مخازن الغلال العامة والخاصة. كذلك يشير مؤلف الكتاب إلى دور العلماء الذين بدورهم لم يكونوا بعيدين عن المشهد كذلك، فعندما اشتكى الناس من غلاء الأسعاء في ربيع 1786 تكلم الشيخ العروسي مع حسن باشا بسبب ذلك وقال له: «في زمن العصارة كان الأمراء ينهبون ويأخذون الأشياء من غير ثمن، والحمد لله هذا الأمر ارتفع من مصر بوجودكم وما عرفنا موجبا لغلاء أي شيء». فتشاور حسن باشا مع الاختيارية، وعقدوا اجتماعا، واتفقوا على تسعيرة للخبز والمواد الغذائية الأخرى، فكان سعر الخبز عشر أواق بنصف فضة. وهذا يؤكد ما أشارت إليه بعض الدراسات من أن علماء الدين استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم كفاعلين ذوي سلطة متزايدة في جميع المجالات، وهو دور كان في الواقع أكبر من دورهم كحاملي معرفة دينية (نوح فيلدمان/سقوط الدولة الاسلامية ونهوضها). بالإضافة لذلك ففي هذه الأزمات لم يكن موقف العسكر سلبيا، فمثلاً عندما أقبل أحد الباشوات على بيع القمح للإفرنج قام العسكر عليه وقالوا له «كيف تبيع القمح للإفرنج بستين نصفا وقد أكلت الناس بعضها بعضا من الغلاء… فبطل بيع القمح للإفرنج».
ونجد في الكتاب وثيقتين تكشفان عن فشل الحكم العثماني خلال عدة قرون في السيطرة على البدو. ففي إحداها، وهي تعود لحزيران/يونيو 1684 نجد أن جماعة خيالة من عربان طايفة الزهايرة يهاجمون جرن حاكم ولاية الدقهلية و»وتعدوا على جماعة كانوا بالجرن المذكور لأجل حراسته وأوقعوا بهم الضرب والجراحات ونهبوا أسبابهم وعقروا ناقة للأمير الكاشف». أما في الوثيقة الثانية التي تعود لسنة 1698 يقوم أحمد بن نجم البقري وأقاربه بالتعدي على ناحية صافور في الدقهلية، وقد طلب من الأفندي حينها الكشف عن الناحية «فوجد دور أهاليها جميعا بغير ابواب وكشف على أربع عشرة طاحونة فيها فلم يوجد فيها عدة ولا آلة ولا أحجاب وفيها أثر الحريق». وقد نتج عن هذه الهجمات – بحسب المؤلف – انسحاب الفلاحين من القرى التي تقع على أطراف الدلتا من ناحية، والانسحاب إلى المدن الكبرى من ناحية أخرى، الأمر الذي أحدث تغييرا ديموغرافيا في المجتمع المصري لا تزال آثاره ماثلة إلى اليوم، كما كتب على ريف دلتا أن يظل تحت وطأة تلك الهجمات إلى أن قامت حكومة مركزية قوية بفضل محمد علي، وقامت بتوطينهم كأداة طيعة في يد الحكومة.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى