«أفضل فندق ماريغولد مدهش» في جزء ثان

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عماد الدين عبد الرازق

قليلة جدا هي سلاسل الأفلام التي تكون أجزاؤها التالية على مستوى الجودة الفنية نفسها التي حققها الجزء الأول الذي كان نجاحه دافعا لتكراره بإنتاج جزء ثان وثالث وربما أكثر. («هاري بوتر»، «حرب النجوم»، «رامبو»، «قراصنة الكاريبي»، «باتمان»، «سوبرمان»، «قصة لعبة» و»روكي».. على سبيل المثال لا الحصر).
الجزء الثاني من الفيلم البريطاني «أفضل فندق ماريغولد مدهش» ليس فقط واحدا من هذه الاستثناءات، بل إنه يبز الأصل على أكثر من مستوى، خاصة من ناحية المضمون والإخراج.
في الفيلم الجديد نلتقي الشخصيات نفسها التي عرفناها في الجزء الأول (2013) وتضم مجموعة من الرجال والنساء البريطانيين المتقاعدين من بريطانيا، جمعتهم الرغبة في قضاء سنوات خريف عمرهم في هدوء، وفي طقس أقل برودة من طقس وطنهم الأم المطير البارد دوما، كما تراود بعضهم أحلام أو اوهام خوض مغامرة ما (عاطفية في الأغلب) لعلها تبث دفقا من حيوية وتجديد في تلك المرحلة الخامدة المملة من حياتهم، فتقودهم أهواؤهم جميعا إلى الهند (جوهرة التاج، في عهد الإمبراطورية العجوز التي غربت عنها الشمس من زمن)، ويرتبط بها الكثير من البريطانيين بعلاقة حب وحنين لا ينفصمان، خاصة طقسها الحار وطعامها الحار جدا (والأشهى مذاقا بالتأكيد من أطباق المطبخ البريطاني الفقير). إلى جانب تقارب الأعمار والوطن الأم وأحلام خريف العمر، يجتمع هؤلاء ويجمعهم في الوقت ذاته الفندق الذي يحمل الفيلم اسمه. الفندق الذي يقع في مدينة « جيبور» يلعب دورا محوريا يرقى إلى مستوى شخصية درامية في الفيلمين. يخيم بظلاله ومعماره العتيق المنفتح على رحابة الطبيعة، وأجوائه المعبقة بروائح الهند وبالتأكيد المناخ العائلي الذي نجح أصحابه في إشاعته بين نزلائه، ومعظمهم دائمون وليسوا مجرد سائحين عابرين، كما شاهدنا في الفيلم الأول.
ولا يحتاج المرء بالضرورة لأن يكون قد شاهد الجزء الأول ليستمتع بالثاني، لأن الأخير مكتمل بذاته، وإن تتبع عددا من الخيوط الدرامية التي نسجها في الأول، وهي في معظمها علاقات حب أو إعجاب، إما تتبرعم، أو تراوح مكانها أو ملتبسة. في مقدمتها علاقة الحب التي تجمع بطلي الفيلم «سوني كابور» (ديف باتل) وخطيبته «سونينا» (تينا دساي). هما الآن يستعدان لتحقيق حلمهما بالزواج قريبا، بعد أن تكلل حلمهما الأول بالتحقق والنجاح متمثلا في الفندق. لكن حلما آخر جديدا يراود «ديف» الذي توجه بصحبة «موريل دونللي» (ماجي سميث) إحدى نزيلات الفندق الدائمات، التي ساهمت في نجاح المشروع بنصائحها بحكم خبرتها الطويلة في العمل في الفنادق، إلى الولايات المتحدة ليلتقيا «تاي بيرلي» (دافيد ستراثيرن) صاحب أحد أكبر شركات إدارة الفنادق في العالم، على أمل إقناعه بتبني وتمويل مشروع «ديف» للتوسع بشراء فندق آخر عتيق مجاور في المدينة ذاتها، وتجديده ليكون جزءا من سلسلة الفنادق التي يحلم بتأسيسها تحت الاسم نفسه. لدى عودته إلى «جيبور» يكتشف ان أحلامه تعترضها عقبات، فقد سبقه إلى شراء الفندق العتيق شاب آخر كان جاهزا بالتمويل، ويبدو له أنه ينافسه أيضا على قلب حبيبته، رغم أن الاستعدادات للزفاف تجري بشكل متواصل.
ينضم إلى الجمع السعيد من نزلاء الفندق «غاي تشامبرز» (ريتشارد غيير) سائح أمريكي يزعم أنه مؤلف جاء يحلم بجو يلهمه للانتهاء من كتابة رواية بدأها. لكن الشاب «ديف» يدرك مباشرة أنه لابد أن يكون «مفتش الفنادق» الذي أخبره مدير شركة الفنادق «بيرلي» أنه سيبعث به لكتابة تقرير عن فندقه، قبل أن يبت في أمر تمويل مشروعه الجديد. «غاي» يصل ومعه بضاعة رومانسية جاهزة (فلا يمكن للمخرج جون مادن، والمؤلف اول باركر، أن يستعينا بأحد نجوم هوليوود من دون استثماره دراميا بما يليق بمقامه، فمنذ الوهلة الأولى التي تطأ قدمه فيها أرض الفندق يقع في غرام صاحبته، «مسز كابور» (ليلليت دوبي)، والدة «ديف» الذي لا يمانع بل يشجع هذه العلاقة على أمل أن يرد له المفتش الصنيع بكتابة تقرير جيد عن الفندق. ولا يكتفي «كيوبيد» بهذا القدر من سهامه التي يطلقها في غفلة من العاشقين. فقصة الحب التي التقينا بها في الجزء الأول وتجمع بين «إيفلين» (جودي دنش)، و»دوغلاس» (بيل نايي) لاتزال متبرعمة، وإن تكن ملتبسة كما تشير هي في حوار عابر. كلاهما استقر به المقام في الفندق الآن، بل ووجد عملا يدر عليهما بعض الدخل. «إيفلين» تلقت عرضا من شركة المنسوجات البريطانية لتواصل عملها بشأن تقديم النصح لتصدير خامات هندية، و«دوغلاس» يعمل مرشدا سياحيا للأفواج التي تفد إلى مواقع المدينة الأثرية (بمساعدة صبي هندي يقوم بإملاء المعلومات السياحية عليه عبر جهاز متصل بسماعة في أذنه لأنه لا يستطيع استظهارها بسهولة). «دوغلاس» غارق الآن في حب «إيفيلن» لأذنيه، خاصة بعد أن هجرته زوجته في نهاية الجزء الأول وعادت إلى بريطانيا لتبدأ إجراءات الطلاق طمعا في الزواج من «فارس الأحلام». هناك أيضا « نورمان»، (رونالد بيكاب) و»كارول» (ديانا هاردكاسل) اللذان تجمعهما علاقة ملتبسة ويسعيان لتحويلها إلى دائمة وربما تتويجها بالزواج، وكلاهما متردد. وأخيرا لدينا «مادج» (سيليا إيمري) المرأة المغناج الحائرة بين رجلين هنديين يهيمان بها، وهي تراود وتراوغ كليهما ولا تدري أيهما تختار.
مجموعة الشخصيات تلك تكابد الشعور بالوحدة وتسعى بكل الطرق لدرء شبحها كل على طريقته، وكل سيجد ملاذه بدرجة أو بأخرى، إن لم يكن في علاقة، فربما في تبني هموم شخص آخر أو مشاركته إياها، أو التوحد بفكرة أكبر منه تضفي على حياته اليومية المعتادة معنى أكبر من حاصل جمع تفاصيلها الصغيرة. هذا هو ما يجده «دوغلاس» في وظيفة المرشد السياحي، وتجده «إيفلين» في عملها ويجده الاثنان في علاقة حميمة تجمعهما قبل نهاية الفيلم وتنضم إليهما ابنته التي تأتي بصحبة أمها في زيارة خاطفة. وما يجده « تشامبرز» في علاقة حب جديدة مع «مسز كابور». و»مسز دونللي» المرأة التي لم تتزوج أبدا ووجدت في الشاب « ديف» الابن الذي لم ترزق به، فتبنت مشروعه وذهبت إلى حد تولي إدارة الفندق واصطحابه إلى أمريكا لمساعدته على تحقيق حلمه الجديد. بالنسبة لكل هؤلاء يشكل «المكان» البعيد، المختلف، الغرائبي الذي يرتبط مع ذلك بالوطن الأم بوشائج أقلها اللغة، المدخل إلى ذلك الملاذ، إن لم يكن الملاذ ذاته. (والمفارقة أن الشاب الهندي اختار تسمية « EXOTIC» عامدا ليداعب خيالات البريطانيين الباحثين عن مهرب كل لأسبابه الخاصة، على ما في ذلك من نزعة تجارية رخيصة، وإن كان الفيلم ذاته لا يصور لنا الشخصيات وقد ابتلعت هذا الوهم. هو المكان ذاته الذي يجمعهم في مشهد العرس البهيج، الصاخب، الراقص للعروسين الشابين، وقد انصهر الجميع، نزلاء، وسكان، وأهل وأقارب، كبارا وصغارا، رجالا ونساء في رقصة جماعية على الطريقة الهندية. (مشهد يذكرنا بالمشهد الختامي لفيلم بريطاني/ هندي آخر حصد حفنة جوائز أوسكار: «مليونير العشوائيات «The Slumdog Millionaire «.) على هذا النحو يؤطر الفيلم رسالة التلاقي والتلاقح الثقافي على أرض القيم الإنسانية المشتركة، متجاوزا تناقضات الماضي التي شابت العلاقة بين هاتين الثقافتين طويلا.
على مستوى مواز يجسد الفيلم من خلال شخصية «مسز دونلي» قيمة إنسانية أخرى يلخصها لنا المشهد الذي يجمعها ومدير شركة الفنادق «بيرلي» الذي يصل في زيارة مفاجئة وحين تبدي دهشتها للزيارة يخبرها أنه جاء ليستكشف الفندق بنفسه، وليعبر لها عن إعجابه بموقفها النبيل المتمثل في تبني وتشجيع الشاب «ديف»، وهل هناك ما هو أكثر نبلا من إنسان يزرع شجرة لن يمهله الزمن ان يستفيء بظلها يوما ما.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى