أسامة الحداد شاعر «عشوائي» يفكّك العالم

الجسرة الثقافية الالكترونية

هويدا صالح

في بنية دائرية، يقدم الشاعر المصري أسامة الحداد ديوانه الجديد «العشوائي» (الهيئة المصرية العامة للكتاب). يبدأ بعرض صورة ذهنية للعشوائي، الذي يركل ذاكرته، ويضع أغنياته المفضلة في غسَّالة الأطباق. يتصور دائماً أن حديثه مع عراف يقرأ طالعه ليس سراً، ومشاجراته في الحافلات العامة تعرض الآن في دور السينما، والشجرة التي وضعها مقلوبة في بداية الشارع يسكن كروانٌ مصاب بالصمم في جذورها.
هذه الحالة العبثية ينهيها الحداد في مقطع أخير يشرح كيف يرى العشوائيُ العالم، كيف يواجه تعاساته وهواجسه من خلال نسج حالة من الفانتازيا واللامعقولية لمواجهة رداءة العالم.
بين المفتتح والختام، يعيد أسامة الحداد تفكيك العالم وتركيبه، وثمة مفتاح للنص يكشف عن وعيه بفكرة التفكيك: «وهذا لا يعني أن العشوائية تشبه أفكار التفكيكيين – من أمثال دريدا – الذين يحاولون هدم المدن وإعادة بنائها في أمكنة بعيدة، ويتصورون أن العالم لعبة ميكانو يتم تشكيلها كثيراً».
يرسم الحداد شخصية العشوائي من مجموعة من المتناقضات، بل يلح على هذا المعنى في أكثر من موضع: «أثق في لعناتكم، أحياناً أريدها؛ فالعشوائي ليس بالشجاعة التي تتخيلونها، وليس جباناً يترك الحرب في منتصفها، والثورات في بدايتها. إنه مجموع من النقائض والاختلافات».
يواصل الشاعر الإلحاح على هذا المعنى في مواضع كثيرة، فهو يقول الشيء ونقيضه مرة، وهو مرتبك ومضطرب مرة أخرى، بل يحتشد النص بصفات كثيرة وعكسها، فيقول: «أنا العشوائي، الحالم البائس، الأحمق الرزين، الشهواني العفيف…». وهكذا يسرد لنا العشرات من الصفات ونقيضها، وكأن هذه المتناقضات من سمات عصر لا يعترف بإنسانية الإنسان، بل يبالغ في تسليعها وتشييئها: «أليس من الممكن أن أكون مجنوناً؟ أم أن هذه هي الحقيقة التي تؤكدها سخرية الآخرين، وتنطلق بها الأقنعة التي ارتديتها، سأعترف بهزائمي، بخيباتي الصغيرة، برعبي الخاص جداً من الكوابيس وظلال الجنرال، من ملك فوق لوحة الشطرنج».
يستخدم الحداد المحاكاة الساخرة والفانتازيا في صناعة هذا العالم المتناقض: «يمكن تجاوز السطر السابق، فالأهم الآن وجودي في الطريق حين أكلت القطط السيارات وقفزت كلبة صديقي من جانبه إلى دراجة بخارية، وارتجفت حوائط البنايات وكان هناك من يعبئون الزلازل في أجولة ويسارعون في الهرب».
يحوّل الشاعر آلام الذات الشاعرة إلى لعب، إنه يصرح في أكثر من موضع بأنه يمارس اللعب، إنه كمن يقف على مسرح، ويكسر حاجز التخييل بينه وبين المتلقي، إنه كسر الإيهام، وكأننا على مسرح بريخت، فلكي لا يندمج المتلقي في النص يهزه الشاعر، ويخبره أنه يمارس اللعب، وأن ما يقدمه له ليس هو العالم الحقيقي، إنما هو ممارسة اللعب، وكأننا في فيلم كرتوني. ولكن ما معنى أن يهتم الشاعر بما هو عام ومجتمعي في ظلّ هذه السخرية والفانتازيا واللامعقول؟ هل واصل الغوص في الذات على حساب وجود الآخر في النص؟
وعلى رغم عبث الشاعر في مواجهة مواجع الذات وهواجسها، إلا أنه يبدو مهتماً بما هو سياسي ومجتمعي، لكنه يتناوله أيضاً بالرؤية الساخرة ذاتها: «لا تزعجكم هذه الحكايات، فأنا من جديد أواصل لعبتي العبثية، فشلت في الانتحار كثيراً، والطائرات التي أغارت على أحلامي لم تكن مزعجة، صحوت على أنين ودماء تتجول حولي، متورط بالتأكيد في إخفاقاتي المتكررة، وأكاذيبي لا نهاية لها، مصاب بفصام حاد، أنتظر أصدقاء ماتوا في حوادث وحروب».
وعلى رغم هذا الاتجاه نحو التفكيك والفانتازيا، يحتشد النص بتوظيف مجموعة من الأسماء التي تحمل ميراثاً ثقافياً وفلسفياً، وتأتي هذه الأسماء بمحمولاتها الثقافية، فكل شخصية ترد في النص تأتي بظلالها المعرفية، فالذات الشاعرة (العشوائي)، يريد أن يخرج على قتامة العالم ليصبح شخصاً آخر، «أنا مغرم بالتنكر، والتناقضات، وأحاول أن أكون شخصاً آخر، مثلاً: لماذا لا أكون دون كيشوت؟/ أحياناً أشبه الكونت في رحلته داخل الغابة/ أريد أن أكون زوربا/ سيعترض المنشق كزنتزاكس/ ويرفض استبدال بطله الأثير/ وصديقه أيضاً».
تأتي هذه الأسماء وغيرها بمرجعياتها الثقافية وتاريخها في استدعاء حرّ لذهن المتلقي، ليثير الشاعر لدى القارئ جدلاً وتساؤلات تفتح الأقواس كلها على الثقافة الإنسانية. وبين نص المفتتح ونص الختام، ثمة قصائد تعتبر ظلالاً لقصيدة «العشوائي» التي أخذت نصف الديوان تقريباً. فأوجد الشاعر حيلة فنية ليبرر ضم بقية القصائد القصيرة إلى قصيدة «العشوائي» التي منحت الديوان عنوانه، عبر بضع صفحات أعطاها مسمى «ملاحظات العشوائي»، حيث يقول: «في دفتره وجدتُ هذه الملاحظات/ كان قد دوَّنها كقصائد صغيرة على نخلة تصعد من شرفته إلى الأرض/ وفوق طاولات المقاهي والبارات/ وقبل أن يلقي بذاكرته من نافذة عربة المترو/ ويترك تاريخه/ لأعداء يتوقعهم دائماً/ وضعها في كراسة واجبه المدرسي/ وتحمل في سبيل ذلك ضربات عنيفة/ لا يعرف كيف سمحت المعلمة بتوجيهها إليه/ رغم أن ابنتها كانت في أحضانه قبلها بدقائق».
وكأن هناك صوتين؛ صوت شاعر يبحث عن مبرّر فني ليضم بقية القصائد إلى قصيدة «العشوائي»، وصوت الذات الشاعرة التي ينسِب إليها تلك القصيدة. ومن يتأمل هذه القصائد القصيرة يجدها ظلالاً للقصيدة الطويلة، فهي تدور تقريباً في الأجواء نفسها، وتقدم زاوية الرؤية للقصيدة الأولى.
ففي قصيدة «المهووس»، مثلاً، يلخص العالم الذي يعيشه العشوائي: «واصلوا السخرية من حكاياته/ حاولوا اصطياد طيور تهبط على كتفيه/ وطاردوا قططاً تمشي معه/ لم تكن لديهم الشجاعة/ لقبول ما يردده كل يوم».
وفي الختام يقول: «هذه الكلمات لا تحمل دلالة ما/ والذين أرهقوا أنفسهم في البحث عنها/ قد ارتكبوا جريمة/ وأضاعوا وقتاً كان يصلح لأشياء نافعة». وكأن الشاعر يختم نصه العبثي بسؤال الكتابة لديه، فلا فائدة من كلمات أو قصائد أو كتب، فقد يكون العمل في رصف الطرق أنفع للبشرية من شاعر يمارس اللعب واللهو، ويعيد تفكيك العالم وبنائه وفق رؤية عبثية فانتازية.

 

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى