المسلسل الأكثر متابعة في تاريخ الدراما المعاصرة

الجسرة الثقافية الالكترونية

ندى حطيط

تكاد أجواء المتابعين لمسلسل لعبة العروش (جيم أوف ثرونز) – المسلسل الأكثر متابعة في تاريخ الدراما المعاصرة، الذي عرضت أول حلقاته في إبريل/نيسان 2011 – تصل إلى ذروة لم تصلها من قبل، وذلك بالطبع وفق خطوات ذكية منسقة تتبعها شركة «إتش بي أو» المنتجة للعمل.
هي مبدئياً أعلنت عن موعد إطلاق الموسم السادس في الثلث الأول من إبريل المقبل، ثم بدأت حملة تشويق من خلال بوسترات تظهر الرؤوس المقطوعة للشخصيات الأكثر شعبية في مواسم المسلسل الخمسة السابقة – وهي التي شاهد كل حلقة منها عشرات الملايين عبر العالم. كما سربت أنباء من خلال تكهنات المراقبين عن عودة كثير من الشخصيات المحبوبة جماهيرياً، التي فارقت الحياة في المواسم السابقة، من خلال تقنيات سرد متنوعة – كأشباح أو استدعاءات مفصلة للذاكرة أو حتى بادعاء أن المشاهدين ظنوا أن الشخصية قتلت ولكنهم لم يشاهدوها فعلاً لحظة موتها، وبالتالي فإن هنالك مسار حياة جديدا كتب لها. أما ذروة التشويق فقد كانت في إعلان جورج مارتن – كاتب الرواية التي يقوم المسلسل على أساسها وأحد كتاب السيناريو – في موقعه على الإنترنت بأنه لن يتمكن من إنهاء المجلد السادس من الرواية في الوقت المناسب لنشره قبل عرض الموسم السادس على الشاشات، وهو ما يعني أن المسلسل قد يكشف حبكة النهاية للرواية قبل نشرها، بل زاد الطين بلة للمتابعين أن مارتن – في معرض دفاعه عن روايته – قال بأن نهاية القصة في المسلسل قد لا تتطابق بالضرورة مع شكل النهاية في الرواية، ما أثار مزيجاً مركباً من مشاعر الترقب والخيبة والحماس لدى المتابعين.
«لعبة العروش» – أغنية من ثلج ونار – كما هو الاسم الكامل للرواية الفانتازيا الأنجح في هذا القرن، يحكي صراع سبع عائلات حاكمة على العرش الحديدي لممالك سبعة تتوزع على قارتين خياليتين، شرقية وغربية، في أجواء صيف طويل استمر لعقد من الزمان. وتبدو أجواء العمل مقتبسة من مرحلة حرب الوردتين – وهو الصراع التاريخي بين عائلتي لانكستر ويورك على السلطة في إنكلترا في العصور الوسطى، مع استعارات من مواقع وأحداث تاريخية أخرى مثل، سور هادريان الروماني في شمال إنكلترا وأسلوب القتال الإغريقي في المياه الضحلة، وغيرها من الرموز التي أبدع مارتن في نسجها معاً في عمل درامي يشبه سجادة فارسية شديدة التعقيد، لكنها خارقة الجمال. أما المسلسل الذي اجتذب أعداداً قياسية من المتابعين عبر العالم (في العالم العربي عرضت الحلقات بالإنكليزية على شبكة OSN ومدبلجاً إلى العربية علىMBC4 ) وكان حاز عشرات الترشيحات والجوائز العالمية وعلى رأسها الغولدن غلوب لأفضل عمل درامي، فقد أنفق بسخاء – معدل 7 ملايين دولار أمريكي في الحلقة الواحدة – على الأعداد الهائلة من الممثلين الرئيسيين – أكثر من 250 شخصية – وعلى الأزياء الفارهة ومواقع التصوير البديعة (إيرلندا الشمالية وأسكوتلندا وكرواتيا والأندلس في اسبانيا وأماكن أخرى عبر العالم) والديكورات الشديدة الواقعية والإكسسوارات والأسلحة الأشبه بالتحف. كما أن الموسيقى التصويرية التي ألفها رأمينجوادي صارت بدورها قصة نجاح موازية لنجاح الرواية والمسلسل، وصدرت في أقراص مدمجة وبيع منها مئات الألوف، هذا بالطبع إلى جانب المؤثرات الصوتية والخدع السينمائية الهائلة والمقدمة الافتتاحية التي حصلت بدورها على جائزة الإيمي لأفضل افتتاحية مسلسل درامي – 2011.
حصل المسلسل على إشادات إيجابية من معظم النقاد في الصحافة ومواقع الإنترنت المتخصصة وأدرج المسلسل والرواية كلاهما على قوائم الأعمال الأكثر انتشاراً في كل مواسمه، بدون استثناء في الولايات المتحدة وكثير من دول الغرب. وصفته صحيفة «الغارديان» بأنه «أكبر دراما تلفزيونية في التاريخ: المسلسل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس» وامتدح أداء ممثليه جميعهم، رجالاً ونساء وأطفالاً، رغم جرعات العنف والعري والجنس والإباحية المروعة التي انتقدتها بعض الصحف، واعتبرت بعضها ليس ضرورياً لتسلسل الحدث الدرامي، لا سيما أن مجلدات الرواية الضخمة حافلة بالأحداث التي تم ضغطها في خمسين حلقة إلى الآن، وهو ما يعادل أقل من عشر ثوان للصفحة الواحدة.
لكن نجاح المسلسل يبدو مبنياً في الحقيقة على أعمق من أدوات النجاح الشكلية – كما يذهب محللون وأكاديميون معروفون – لكونه يطرح في سياق أحداثه الدرامية قضايا سياسية واجتماعية، ويقدم بشأنها جدلاً عالي اللهجة ووجهات نظر متقدمة تعالج مسائل كالسلطة والنفوذ والطبقات والدين والحروب الأهلية والعلاقات الجنسية والجندرية والعدالة والجريمة والعقاب والصداقة والولاء والخيانة. يقول دانيال ديزنر – الأستاذ في كلية الدبلوماسية والقانون في جامعة تفس في الولايات المتحدة إن «الموسم الأول للعبة العروش يمكن أن يكون بمثابة أفضل برنامج دراسي لفهم الفكر السياسي»، بينما «المواسم التالية – تساعد في فهم قضايا صراعات النفوذ، الولاءات السياسية، أسلحة الدمار الشامل وسياسات الجندر… كما
لو كنت تتخصص جامعياً في العلوم السياسية». ولا شك أن تقديم القضايا السياسية – الجافة عادة – في أعمال فانتازيا درامية يبدو قادراً على استثارة عواطف جمهور أوسع بكثير مقارنة بالدراما التي تطرح القضايا ذاتها في قوالب معاصرة مثل «الجناح الغربي»، «بيت من ورق» أو «الفضيحة».
«لعبة العروش» إذن هو أكثر بكثير من مجرد رواية تحولت إلى مسلسل ناجح، بل هو «أفضل تجسيد لمفهوم أعمق لمعنى الواقعية السياسية» – يقول الناقد تشارلي كاربنتر. مارتن قدم بالدراما فكراً سياسياً شديد المعاصرة وكأنه استكمال لأساطين الفكر السياسي، هوبز وميكافيللي وبريجنسكي.
طرح مارتن على هذا المستوى يجعل الواقعية السياسية الميكافيللية غير مرضية وغير ناجحة على المدى الأطول، إذ أنه يقول من خلال شخوص روايته أن صراعات النفوذ بين مراكز القوى والانتصارات قصيرة النظر على الخصوم لا تؤسس لتجربة بشرية مستمرة، بل لفوضى شاملة تلهي البشر في قضايا جانبية، وتحول بينهم وبين النظر في مواجهة تحديات الوجود الكبرى وأزمات الكوكب المناخية والبيئية العابرة للحدود. وهو من أجل ذلك يقدم شخوص الأعداء – الذين تحاول الأعمال الدرامية عادة شيطنتهم – يقدمهم مارتن بوصفهم بشرا بدورهم لهم مشاعرهم وعواطفهم، بل ظروفهم التي فرضت عليهم اتخاذ موقف العداوة في موقف معين. مارتن يدعو في النتيجة إلى حكم فاضل مثالي – إذ العدالة عنده لا القهر – هي سر ثبات الأنظمة السياسية – وأن الكيانات السياسية المتنافسة القائمة، إذا لم تلتفت إلى مصالح البشرية ككل فإنها يجب أن تخلي مكانها لمشروع كبير قائم على تحقيق التفاهم بين مجموعات سياسية وعرقية عديدة: إمبراطورية جديدة. الجدير بالذكر أن كاتبي السيناريو الأساسيين لمسلسل «لعبة العروش» ديفيد بينيوف ودانيال وايز – كان قد شاركهما خمسة من كبار المبدعين في هوليوود، بمن فيهم صاحب الرواية جورج مارتن نفسه في كتابة عدد مختلف من الحلقات بصفة مستقلة – وهما لا يستبعدان إنهاء المسلسل من خلال موسم سابع وإن كانت الشركة المنتجة قد جددت العقود للموسم السادس فقط إلى الآن. «سبعة آلهة، سبع ممالك… ستنتهي إذن في سبعة مواسم» يقول الكاتبان. إعلان مارتن استقلال الرواية عن المسلسل، ربما يصب في مصلحة موسم سابع لكننا الآن ومعنا الملايين عبر العالم سنقلق أكثر بما سوف يحدث في أحداث موسم (رياح الشتاء) – الموسم السادس اعتباراً من 8 إبريل المقبل.

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى