يا مريم: المعنى الآخر للموت

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص-

د.يوسف حمدان
*د. يوسف حمدان

تمتلك الحكاية قدرة فذّة على التحايل على أدوات الوعيّ والتجاوز عن قدرات الإدراك المسخّرة لمراجعة الأفكار وغربلتها، لتصل إلى التأثير في المتلقي عبر التجربة المجسّدة والمثال المطّبق حكائيا، ذلك أنّ الحكاية تتحيح مساحة للتعايش مع ما يرفض الإنسان من أفكار ومقولات بصيغها المجرّدة، ويجعلها قابلة ولو جزئيّا للمشاركة في تشكيل الوعي الإنسانيّ ولأن تؤخذ بعين الاعتبار. ومما لا شكّ فيه أنّ لذلك أثرا كبيرا في إثراء الشخصية الإنسانيّة وخلق القدرة على الجمع بين المواقف المتعددة والمركبة تجاه الأفكار والقضايا. ويصل هذا الأمر أحيانا إلى الجمع بين المواقف والمقاربات المتناقضة حول القضايا المناقشة، وبالطبع هذا لا يعني أنّ المتلقي ستتغير بالضرورة أراؤه ومواقفه بفعل قراءة الحكاية، وإنما سيكون قادرا على فهم وجاهة الآراء الأخرى ومدى قوّتها وإمكانيّة الدفاع عنها، لا سيّما حين تجمع الحكاية نفسها بين قراءات متعددة ومواقف متباينة، تتضمن بينهاتأويلا منافسا للتأويل الذي يتبنّاه المتلقي.
ومن الأعمال الروائيّة اللافتة للنظر في هذا السياق رواية “يا مريم”، المرشّحة ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة عام 2013، للروائي العراقي وأستاذ الأدب العربيّ في جامعة نيويورك سنان أنطون، التي تجمع بين رؤيتين متناقضتين في تفسير ما تعرّض له المسيحيون العراقيون وكنائسهم من اعتداءات، فيرى العم يوسف أنّ ذلك غير أصيل في بينة المتجمع العراقيّ ولا يعبّر عنه؛ ذلك أنّ العنف الذي يتعرّض له المسيحيون لا يختلف في طبيعته ومستواه عمّا يتعرّض لهالمسلمون، وهم جميعا عاشوا فترة طويلة من تاريخهم حياة طيّبة لا يعكّرها التمييز أو الاضطهاد. هذا التبرير لا يقنع مها الشابة التي لم ترَ المسيحيين في العراق خارج دوائر التكفير والتفجيرات والمفخخات. ويظهر في الرواية من تاريخ مها ما يبرر هذه الرؤية؛ إذ كان مولدها في مجلأ أثناء حرب الخليج الثانية، وقتل خالها وخسرت جنينها في أعمال عنف وتفجيرات كانت تستهدف المناطق المسيحيّة، وتشرّدت عائلتها وأجبرت هي أيضا على ترك بيتها لتحيا مؤقتا في بيت العم يوسف. بفعل هذه الأشكال المتعددة للمعاناة، ترى مها أنّ موقف العم يوسف معتمد على الذاكرة والتاريخ وليس واقعيّا، وهو ما يدفعها للقول له: “أنت عايش في الماضي عمو”.
غير أنّ التقابل بين الرؤيتين يتعرّض لتغيير جوهريّ في نهاية الرواية، حيث يذهب العم يوسف ومها ضمن آخرين إلى الكنيسة للصلاة في الذكرى السابعة لوفاة حنّة أخت يوسف، فيقع هجوم إرهابيّ على الكنيسة بالمتفجّرات والأسلحة الناريّة، يموت خلاله يوسف في مشهد عنيف للغاية، يبدأ بسرده راوٍ عليم يقدّم كلّ ما حدث أثناء الاعتداء”… ارتبك يوسف وظلّ واقفا لا يعرف ما الذي يمكن أن يفعله… ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كلّ شيء. انبطح يوسف أرضا مثل البقية” (ص 146). ويأتي هذا الراوي على ذكر مخاوف مها خاصة وصلواتها أثناء العمليّة وبعدها، ثمّ يُعطى الصوت لمها لتقديم شهادتها عن الحادث على إحدى الفضائيات، ويعود الصوت بعد ذلك للراوي العليم ليصف جثّة يوسف ملقاة على الأرض لساعات: “ظلّ جسد يوسف مسجى على أرض الكنيسة لأكثر من أربع ساعات، قبل أن يُحمل إلى الخارج بعد تخليص الرهائن وإخلاء الجرحى. كان محاطا بأشلاء بشريّة وبقطع الزجاج المكسور والغبار والجص وببركة صغيرة من الدم الذي ظلّ ينزفه…”(ص 155).
وبالطبع تلقي هذه الحادثة ثقلا كبيرا على الرؤيتين المتناقضتين متقدمتي الذكر، فيبدو، على المستوى الشكليّ على الأقل، أنّ وجهة نظر مها قد حصلت على نقطة لصالحها،فصاحب الرؤية الأخرى وهوالعم يوسف وقع في حدث يجسد تجسيدا مباشرا ما كانت تصرّ عليه، وهو أنّ العنف الموجّه ضد المسيحيين لا يمكن التعايش معه، بغضّ النظر عن تاريخ الحياة السلميّة التي كانت مستندا رئيسيّا للعم يوسف في توضيح موقفه، وهو ما لم يكن ذا نفع على الإطلاق.
ومن المؤكّد أنّ المسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ وبمثل هذه البساطة، فالعم يوسف، على الرغم من موته، لا يتراجع حضوره ولا يتخلّى عن السيطرة على وعي المتلقي، فالمشهد يوجّه القارئ إلى رفع مستوى تعاطفه معه، وبالتالي يجعله أقرب إلى تقبّل أفكاره. وموت العم يوسف على هذه الشاكلة جعل منه حالة أيقونيّة للتعبير عن فكره، أو يمكن وصفه بأنّه تحوّل إلى فكرة تمتلك إمكانيّة البقاء والحضور أكثر من إمكانيّة من يحملها، فالحضور الإنسانيّ مؤقّت، أمّا الأفكار فعابرة للقيود الزمانيّة.
بالإضافة إلى ذلك، مها نفسها التي تنجو من الجريمة وتستمرّ بالتالي في الحضور تزيد مستوى التعاطف مع يوسف، فتبدو في ندم شديد على موقفها من يوسف وردّة فعلها على موقفه حين وصفته بأنّه يحيا في الماضي، وقد مات دون أن تتمكّن من الاعتذار له. وكذلك تعود أفكار العم يوسف لتظهر على لسان مها في اللقاء التلفزيونيّ الذي شاركت فيه عن التفجير، فتقول: “يريدون يطلعونا من البلد؟ يقولون علينا إحنا صليبيين وإحنا متعاونين وي الاحتلال وكذا. هذا كلّه كذب وتزوير للتاريخ ما إله أساس. إحنا ما جينا على الدبابات من الخارج مثل كل هذوله اللي يزاودون على وطنيتنا… إحنا موجودين هوني صارلنا قرون. وخلي يسمعون الناس. التاريخ يشهد وحتى الآثار تشهد، أديرتنا وآثارنا موجودة…” (ص154-155). يبدو واضحا في كلام مها أنّها متمسكة بالعراق وبالتاريخ الذي لا تمثّله الأحداث الجارية، على العكس تماما من موقفها في حوارها مع العم يوسف في بداية الرواية، حيث كانت تدافع عن فكرة واحدة وهي أن الهرب من العراق هو الوسيلة الوحيدة للخلاص. من هنا يمكن القول إنّ الموت في “يا مريم” ليس علامة انتهاء الموقف والفكرة، وإنما العكس تماما، تأكيد الحضور والدوام.

* أستاذ الأدب والنقد الحديث/الجامعة الأردنيّة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى