رسوم عبدالقادر بن شامة تسائل المادة وتحوّلاتها

الجسرة الثقافية الالكترونية

انطوان جوكي

لم نفاجأ بقرار دار «كريستيز» للمزادات عرض أحدث أعمال الرسام الفرنسي (من أصل جزائري) عبدالقادر بن شامة في صالتها الباريسية. فموهبة هذا الرسام التي فتحت له أبواب أبرز المحافل الفنية الدولية خلال السنوات العشر الأخيرة، وطبيعة رسمه الفريدة تستحقان هذا التكريم، خصوصاً بعد نيله جائزة «صالون الرسم المعاصر» العام الماضي.
تجــــدر الإشارة بدايةً إلى أن بن شامة يرى فـــي الرسم وسيطاً فنياً كاملاً يمكّن الفنان من بلــــوغ غايات مختلفة. في عمله، الذي يبقـــى بأسلوبه معاصراً في شكلٍ قاطع، ويمسّ حقـــولاً مختلفة، كالأدب وفن رسم المشاهد، تظــهر روابط مع كل من الرسم الكلاسيكي والرسم العلمي وبعض قواعد الشرائط المصوّرة. وبمساءلته المادة، طابعها الملموس، كثافتها أو شفافيتها، يعانق فن النحـــت. مسارٌ غني بالاختبارات، قاد رسمه من الخط الواضح نحو التجريد، ضمن تأمّل ثابت في موضوعَي الكتابة وتحوّلات المادة.
وفعلاً، تحضر بعض رسوم بن شامة، التي ينجزها من دون عمل إعدادي سابق، بإيقاع تارةً محموم وتارةً بارد، ككتابة مجرّدة وتشكيلية خاصة، وأحياناً برفقة أجزاء نصوصٍ أدبية. بعبارة أخرى، يختلط هذان النمطان الكتابيان ويتكاملان أو يتضاربان داخل عمله، الذي يخرج غالباً من ركيزته التقليدية، الورق أو القماش، ليملأ جدران الصالات التي تحتضنه. عملٌ تعبر فضاءاته أيضاً شخصيات تائهة وأغراض يومية في حالة تمرّد على طبيعتها ووظيفتها ومحيطها الجديد، وذلك ضمن شعرية عبثية تشكّل جواباً ممكناً على محدودية واقعٍ وحيد.
من جهة أخرى، يستوحي بن شامة بعض رسومه من سيناريوات بصرية متأتية من تأملات في الفضاء وواقعه المادي، الفيزيائي، وحدوده ونقاط اتصاله بفضاءٍ ذهني، مستعيناً في ذلك بتقنيات رسم تقوم على اختطاف وتعديل أشكال أشياء مختلفة بهدف الشهادة على خللٍ في علاقتنا بها. وهو ما يقود إلى انزلاق الواقع في رسومه نحو اللامرئي وبروز مواد وأشكال غير محددة، في حالة انمساخ دائم.
جزءٌ مهم من عمل بن شامة يرتبط أيضاً بممارسة فريدة لفن الرسم على الجدران. فخلال معارضه، نراه ينجز جدرانيات ضخمة تغيّر وتبلبل إدراكنا الحسّي وعلاقتنا بالفضاء من خلال فيض الكتل والخطوط غير المحددة التي تنبثق منها وتظهر على شكل مواد في حالة انصهار. جدرانيات محكومة بالزوال، على رغم دقتها الشديدة، وبالتالي تحضر، مثل موضوعاتها، بطبيعتها العابرة والمتعذّرة المنال.
جدرانيات لمشاهد مفتوحة ومتراوحة بين تجريد وتصوير، ينجزها الفنان بالحبر الأسود على خلفيات بيضاء، وتسائل مصادر وطبيـــعة رسمٍ يبدو وكأنه يتوق، من خلال خطـــّـــه الماهر والحيوي، إلى تشييد عالم فنـــي مصفّى وفي الوقت ذاته هو غني بعناصره التشكيلية التي تحضر على شكل كُتَل أثيرية، غازية، تتحلى بخصوصية مدهشة تمنحنا الانطـــباع بمستقبلٍ سائل لعالمــــنا. كما لو أن هـــذا الخط يطرح سؤال طبيعة المادة، فيقترح كــجواب عن هذا السؤال سلسلة اضطرابات جـــُزَيئية في حالة تمدد دائم، تنبثق من مركزٍ خفي لتغطي وتستوعب كل ما يحيط بها.
ولعل هذا ما يفسّر ذلك الشعور الذي يتملّكنا أمام رسوم بن شامة، شعورٌ بفراغٍ، بقوة كامنة وغير مرئية تعمل كدوّامة أو كجاذبية تتحكّم بحركة العناصر التي تتألف منها هذه الرسوم، وبتحولاتها، وتشدّها إلى التواري، إلى هوةٍ، أو تجمّد حركتها على رغم طابعها السائل. فراغٌ يحدد إذاً قواعد هذه الجغرافيا المتحوّلة والأشكال التي تتعاشق داخلها وتحاول قدر المستطاع مقاومته. كما لو أن الأمر يتعلّق بثقبٍ أبيض يعادل بوظيفته وقوته الثقب الأسود في الفضاء، لامتصاصه كل ما يقع في نطاق جاذبيته وشدّه نحو العدم، أو نحو ولادة جديدة، بما في ذلك نظرتنا المتأملة فيه.
هكذا، تبدو رسوم بن شامة في حالة تحفُّظٍ أخير وهي تستسلم لذلك الفراغ، لذلك النفَس الذي يتغلغل فيها ويجعلها تلهث أو ترتعش مثل نجومٍ على وشك الانفجار. كما لو أن الفنان لا يسعى، من خلال مشاهده الأثيرية أو قاماته الحائرة والضبابية أو انحرافات خطوطه شبه المجرّدة، سوى إلى الإمساك بتلك اللحظة التي تسبق الانفجار المحتم وتداعياته. إمساك بواسطة رسمٍ سريع وعصبي، دائماً بسيط وفي الوقت ذاته معقّد، يتحوّل بإفلاته من إكراهية البُعدين إلى محفورة أو منحوتة، ويشيّد في طريقه تلك السردية المدهشة والمتجددة دائماً للحظة ولادة الكون.

المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى